أعلنت إثيوبيا، صباح أمس الإثنين، إتمام عملية الملء الثاني لسد النهضة قبل نحو ثلاثة أيام مما كان متوقعاً سلفاً، ولكن من دون تخزين كمية المياه المرجوة لهذه المرحلة، غير أنها أكدت للمرة الثانية استئثارها بتحديد مواعيد بدء الملء والانتهاء منه من دون استشارة مسبقة لدولتي المصب. ويكرس هذا الإعلان عن إتمام الملء الثاني الأمر الواقع بسيطرة إثيوبيا، ويفوّت الفرصة مجدداً على مصر والسودان للتوصل إلى اتفاق نهائي ملزم، ما يسمح لأديس أبابا مستقبلاً بالتحكّم في مياه النيل، بعد انقضاء سنوات الرخاء ووفرة الفيضان الحالية.
وهنأ رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، في تغريدة على "تويتر"، أمس، شعبه باكتمال التعبئة الثانية لسد النهضة، مرفقاً تغريدته بصور تظهر الانتهاء من الملء الثاني. وكرر أبي أحمد تأكيده على أن إثيوبيا "في وضع أفضل للحفاظ على المرونة في جميع الاتفاقات"، بحسب ما نقلت هيئة الإذاعة الحكومية (فانا).
بدوره، قال وزير المياه والري الإثيوبي سيليشي بيكيلي، عبر حسابه على موقع "تويتر"، أمس: "اليوم في 19 يوليو/ تموز الحالي، تم الانتهاء من الملء الثاني لسد النهضة وتدفق الماء إلى قمة السد"، ونشر صوراً لعملية الانتهاء من الملء الثاني. وأضاف أن "كمية المطر التي تهطل هذا العام هائلة، يمكننا أن نفهم مدى عظمة نعمة الخالق وكيف يساعدنا". وتابع: "مبروك للإثيوبيين وأصدقاء إثيوبيا: النتيجة كمية المياه اللازمة لتشغيل توربينين (لتوليد الكهرباء). لقد قمنا بالكثير من العمل هذا العام للوصول إلى هذه النقطة. نحن نعمل بجد لإنتاج التوربينات المقبلة، وسنكون قادرين على إكمال ذلك في الأشهر المقبلة". وطمأن بيكيلي مصر والسودان بأنه لن يلحق بهما أي ضرر جراء التعبئة الثانية لسد النهضة، مشيراً إلى أن السد "هو الحارس لدولتي المصب ضد تغيرات المناخ، كما أنه وسيلة للتطوير والازدهار معاً"، حسب وصفه.
بيكيلي: السد هو الحارس لدولتي المصب ضد تغيرات المناخ
من جهته، وبصورة دعائية تحمل عبارات النجاح والفخر، نشر التلفزيون الرسمي الإثيوبي مقاطع فيديو تظهر مياه الأمطار تنهمر بغزارة على بحيرة سد النهضة وتفيض من فوق الممر الأوسط بعد وقف تعليته عند حوالي 574 متراً، مع استمرار تشغيل مضختي المياه الضخمتين اللتين تدفعان المياه الزائدة من البحيرة إلى وادي النيل لتصل إلى بحيرة سد الروصيرص السوداني.
وقالت مصادر فنية مصرية لـ"العربي الجديد"، إن الإثيوبيين استطاعوا حجز ما بين مليارين و3 مليارات متر مكعب من المياه أعلى من مستوى الملء الأول، ليبلغ إجمالي الكمية المخزنة حالياً بين 7 و8 مليارات متر مكعب تقريباً، وذلك مع الحفاظ على تشغيل مضختي المياه إلى بحيرة سد الروصيرص حتى نهاية فترة الملء الثاني بتدفق يصل إلى 50 مليون متر مكعب يومياً لكلا الفتحتين. وأضافت المصادر أن استمرار الملء لفترة أخرى أصبح مستبعداً الآن، بسبب تضاؤل فرص توقف الأمطار، ما سيمنع استئناف جهود تعلية الممر الأوسط.
وذكرت المصادر أنّ تعلية الممر الأوسط للسد في هذا الصيف، لم تكن ستزيد في أحسن الأحوال على 577 متراً بعد التباطؤ الشديد في الإنجاز خلال الربيع وفي ظلّ زيادة كميات المياه المخزنة، وذلك بدلاً من 595 متراً كانت ترغب إثيوبيا في تعليتها، لتتمكن من تخزين 13.5 مليار متر مكعب من المياه. وأكدت المصادر أن الفيضان الكبير للنيل هذا العام ربما يتسبب في مشاكل للسودان كما حدث خلال العام الماضي، ولكن ستنتفي معه احتمالات الضرر المائي لدولتي المصب بشكل نهائي حتى صيف 2022 على الأقل.
لكن المصادر أثارت القلق بشأن نقطة مهمة تشغل بال الفريق الفني المصري حالياً، وهي أنّ استئثار إثيوبيا بالتحكم المطلق في مواعيد الملء وكمياته، كما حدث في العمليتين الأولى والثانية، ربما يسمح لها بعد فترة في المراحل التي ستشهد جفافاً متوسطاً أو حاداً أو ممتداً، بالملء الجائر المجحف بحقوق دول المصب، بحجة رغبتها في الإسراع في إتمام ملء البحيرة بطاقتها الاستيعابية القصوى المستهدفة من المشروع كاملاً، أو زيادتها.
إجمالي الكمية المخزنة في السد حالياً يراوح بين 7 و8 مليارات متر مكعب
وأوضحت المصادر أنّ التراخي المتعمد أو البطء القهري في إنجاز الملء بهذه الكميات الكبيرة، يعطي وقتاً أطول لمصر والسودان لتحسين قدراتهما في التصرف واستغلال مواردهما المائية، لكن في الوقت نفسه يطرح تساؤلات عن كيفية تصرفهما في السنوات التالية التي ستشهد جفافاً، لأن الفترة الحالية كانت الأمثل لإنجاز أكبر قدر من مراحل الملء مع عدم تضرر مصر والسودان مائياً.
وفي كل الأحوال، ينبئ الواقع العملي والتغيّرات الاستراتيجية التي ستترتب على إنجاز سد النهضة بأن الأضرار لا يمكن قياسها بهذه الأرقام المجردة لتغيرات حصة المياه، فحتى أن تمكّن مصر من تلافي هذه الأضرار ستكون له ضريبة ستدفعها غالياً من قوت مواطنيها اليومي. فبحسب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نفسه، يتطلب مشروع تطبين الترع (القنوات المائية) - الذي أدخل جزءاً منه ضمن مبادرة "حياة كريمة" التي يمولها رجال الأعمال - أكثر من 60 مليار جنيه (نحو 64 مليون دولار)، كان من الممكن إنفاقها في مرافق أخرى أكثر احتياجاً وبصورة عاجلة، لو لم تكن مصر معرضة بالفعل لنقص ملحوظ في حصتها المائية التي لا تفي باحتياجاتها أصلاً.
كما أنّ غياب المعلومات وانعدام الشفافية من قبل الجانب الإثيوبي حتى مع الإخطار الدوري قبل الملء، يعرقل الاستجابة المشتركة للتغيّرات الفنية والمناخية الطارئة، كما يحيط الإجراءات بالغموض ويصعّب توقع المشاكل الوارد حدوثها، الأمر الذي لا يمكن احتسابه ضمن حدود الضرر المادي في الأوضاع العادية، بل سيمثل حالة ضرر مفاجئة يمكن تفسيرها من قبل أديس أبابا بالاستثناء الطارئ.
وبدت تأثيرات غياب المعلومات خلال عملية الملء الثانية للسد واضحة على الجانب السوداني، إذ قالت إدارة سد الروصيرص لقناة "الجزيرة"، إنها لم تكن لديها المعلومات الكافية بشأن سريان عملية تعبئة سد النهضة، مؤكدةً أن هناك ضرورة كبيرة لتبادل المعلومات بشأن عملية تعبئة وتشغيل السد. وقالت إن غياب المعلومات بشأن عملية التعبئة الثانية دفعها إلى اتخاذ إجراءات احتياطية، مشيرةً إلى أنها بدأت في عملية التفريغ التدريجي لبحيرة السد لاستقبال وارد المياه من إثيوبيا. كذلك، نقلت "الجزيرة" عن سكان في المنطقة، تأكيدهم أن الإجراءات المتخذة على مستوى سد الروصيرص بسبب غياب المعلومات من الطرف الإثيوبي، تضرر منها عدد من المزارعين يزيد عددهم على الألف، حسب قولهم.
كمية المياه المخزنة حالياً تسمح بسهولة بتوليد الكهرباء حسب المخطط المحدد سلفاً
من جانبه، قال مصدر فني إثيوبي عقب إعلان أديس أبابا إتمام الملء الثاني، لـ"العربي الجديد"، إنه في حال توقف الأمطار، ستعود إدارة السد لاستئناف أعمال تعلية الممر الأوسط بحيث تستطيع تخزين أكبر قدر من المياه خلال الفترات المقبلة من دون الوقوع في الإشكاليات التي حدثت في الربيع الماضي.
وأضاف المصدر أن كمية المياه المخزنة حالياً تسمح بسهولة تامة بتوليد الكهرباء حسب المخطط المحدد سلفاً، والذي يتضمن توليد نحو 750 ميغاوات من وحدتين مكتملتين الآن لإنتاج الكهرباء، بحيث تولد كل وحدة 375 ميغاوات. ويبلغ معدل إنجاز المشروع الإجمالي حالياً، بحسب المصدر، نحو 80 في المائة، ففي الأسبوع الأول من مارس/ آذار الماضي، تم تركيب أول أنبوبين ضخمين من الأنابيب المخصصة لنقل المياه من بحيرة التخزين الرئيسية إلى المحطة الكهرومائية لإنتاج الطاقة، وذلك بالتعاون مع شركتين إيطالية وفرنسية متخصصتين في هذا النشاط، ومن المقرر تركيب أربعة أنابيب أخرى بعد بدء التشغيل التجريبي لإنتاج الكهرباء.
وأوضح المصدر أن الأعمال المدنية للمشروع قد اكتملت بنسبة 93 في المائة، بينما تم بالفعل الانتهاء من الأعمال المعدنية بنسبة 55 في المائة، ما يجعل معدل الإنجاز الإجمالي للمشروع 83 في المائة.
ويتزامن إنهاء الملء الثاني مع صدور تعليمات جديدة من المخابرات المصرية إلى الإعلام والجهات الحكومية المختلفة بنشر خطاب مطمئن بين المواطنين، بأن الملء الثاني فشل وأن مصر لن تتأثر وأن مسار التفاوض ما زال طويلاً، والتشديد على نجاح الاستعدادات المصرية لاستيعاب الأضرار، مثل مشروع تبطين الترع وتطوير محطات معالجة المياه وتقليل المساحات المزروعة بالمحاصيل المستهلكة للمياه.
تعليمات من المخابرات المصرية إلى الإعلام بنشر خطاب مطمئن بين المواطنين
ويعبر هذا الخطاب المطمئن للرأي العام عن انقلاب واضح في اتجاهات الإعلام المصري الموالي للنظام الحاكم. فبعدما شنت وسائل الإعلام وحسابات التواصل الاجتماعي الموالية للسيسي حملة بتصعيد الحديث عن "ضرورة الحسم بالقوة"، والإشارة الصريحة إلى "مطالبات باستخدام القوة العسكرية" طالما استمرت أديس أبابا بموقفها المتشبث باستمرار العمل على الملء الثاني المنفرد للسد، من دون اشتراط التوصل إلى اتفاق نهائي على قواعد الملء والتشغيل، عادت الوسائل نفسها للتخويف من استخدام الحل العسكري، ودعوة المواطنين للهدوء والاطمئنان ودعم قرارات الدولة.
وتغيّر هذا الخطاب مباشرة بعد حديث السيسي، يوم الخميس الماضي، خلال حفل مبادرة "حياة كريمة". إذ كرر الرئيس المصري مطالبته المواطنين بعدم تصديق وترديد ما وصفه بـ"الهري" (لفظة عامية للحديث المسهب بلا معنى)، قاصداً بذلك صم آذانهم عن الأطروحات المخالفة لما تعلنه الحكومة. وذكر أنّ مصر "لديها في سبيل الحفاظ على أمنها خيارات متعددة، نقررها طبقاً للموقف والظروف، وأصبحت تمتلك من القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية ما يعزز حماية مقدراتها"، وأن مصر "حرصت دائماً على الاستخدام الرشيد للقوة".
ووصف السيسي قلق المصريين من سد النهضة بأنه "قلق مشروع"، وفي الوقت نفسه طلب تناول الموضوع في الإعلام والبرلمان "بعقل وهدوء ومن دون انفعال"، وقال إنه "لا يليق بالمصريين أن يقلقوا إلى هذا الحد". وأضاف: "نريد نهر النيل مجالاً للشراكة والخير، وأكدنا أننا لا نريد الخير لنا وحدنا، بل الخير للجميع، ونقول إننا مع كل ما يساهم في رفاهية الشعبين الإثيوبي والسوداني"، موجهاً حديثه للمصريين: "التخريب يجب أن يكون استثناء، والتنمية والبناء هما الأساس، ويجب عليكم أن تعيشوا حياتكم من دون مبالغة في القلق".