تواجه أوروبا معضلات آثار انتشار الخطاب الشعبوي منذ نحو 15 سنة، إذ أصبح الخطاب القومي المتطرف أكثر وقاحة وجرأة في الرغبة بمجتمعات عرقية غير تعددية.
التطورات السلبية تلك، برأي باحثين كثيرين، ليست بسبب "عدم صلاحية الديمقراطية" أو "مرض الليبرالية"، كما يفسر البعض، ومنهم بلسان عربي، ويا للعجب يلتقون مع ذات تيارات التطرف في معاداة العدالة والمساواة والحريات، وبعلاقة ما أيضاً بروسيا.
ربما يقدم النموذج الإيطالي تصوراً لمآلات أوروبية مستقبلية. فعلى الرغم من صعوبة حكم تحالف فاشي ويميني ـ شعبوي، إلا أن دورات انتخابية سابقة قدمت تصوراً لما وصلت إليه اليوم ساحتها الحزبية، والتي تشبه مآلات أوروبية أخرى بدت أكثر انضباطاً وتحفظاً، كالإسكندنافية.
فالأمر ليس مستجداً، إذ منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، صار في الإمكان ملاحظة بعض تلاقٍ على خطابات التعصب القومي بين مختلف التيارات، التقليدية والمتطرفة.
اليوم تفيد استطلاعات روما أن تحالف الفاشية واليمين الشعبوي سيحصد نحو 40 في المائة في انتخابات الشهر المقبل. ذلك، وغيره كثير، ليس بمعزل عن تراجع يسار الوسط.
على سبيل المثال كان "الشيوعي الإيطالي" (بارتيتو كومونيستا إيتاليانو) قادراً حتى الثمانينيات على حشد ملايين الأعضاء والنقابات والمنظمات الثقافية والاجتماعية.
لكن، منذ حله وانقسامه (1991) تحولت أغلبيته إلى "الحزب الديمقراطي". ومع استبدال تنظيرات أنطونيو غرامشي وبالميرو تولياتي بنهج اجتماعي ديمقراطي أوروبي، توالت مؤشرات انحساره.
وللتذكير فقط، ظل ذات "الشيوعي الإيطالي" يحقق نتائج جيدة منذ 1946، وحصل في 1976 على 34 في المائة من الأصوات.
عموماً، ذلك لا يخص فقط إيطاليا، بل حالة أوروبية أوسع، لم تعد فيها الطبقة العاملة كما كانت سابقاً، وتلك قضية متشعبة أخرى.
فتيارات الانتهازية الشعبوية الأوروبية تستفيد من الأجواء العامة، التي ساهم بتوسعها تملق الأحزاب التقليدية للشارع، بخطاب إعلامي متشدد، كما في فرنسا وألمانيا والدنمارك وهولندا وبلجيكا وبولندا والمجر، وغيرها، منتقلاً عند بعضها في يسار الوسط من "تضامن أممي" إلى انغلاق قومي، واختلاق أعداء وهميين بين مواطني الأصول المهاجرة.
بعبارات أخرى، خطاب المجري فيكتور أوربان عن التجانس العرقي ليس بمعزل عن بقية القارة. فذهاب رئيسة حكومة يسار الوسط الدنماركية ميتا فريدركسن، أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى خطاب يلامس منافسة الشعبويين على صناديق الاقتراع، ربما يوضح بعض أسباب قابلية اعتبار ساسة التطرف، من طراز الفاشية الإيطالية جيورجيا ميلوني، "حريصون على الأوطان".
ولعل الأسوأ، مع توالي الأزمات وتشوش الهوية والقيم، لم يظهر بعد في القارة العجوز.