يختلف موقف ألمانيا من الأزمة في أوكرانيا عن باقي بلدان أوروبا، التي تناصر وجهة النظر الأميركية. ومنذ أن أخذت القضية الأوكرانية تتجه نحو النزاع المسلح، باتت برلين عالقة في وضع متذبذب بين الحليفة أميركا، والجارة روسيا، وبلغ الحرج الألماني ذروته خلال الأسبوعين الأخيرين، بعد زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز إلى واشنطن في السابع من فبراير/شباط الحالي، وقبل زيارته إلى كييف وموسكو يومي الرابع عشر والخامس عشر من فبراير على التوالي.
ويبدو أن تصريحات المستشار الألماني الأسبق غيرهارد شرودر، والذي ينتمي إلى حزب شولتز، "الاشتراكي الديمقراطي"، لم تصب في صالح المستشار الألماني الحالي.
ولم يتوان شرودر عن الدفاع علناً عن صديقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبدا كأنه يبرر نشر روسيا تعزيزات عسكرية قرب الحدود الأوكرانية، وكأنها جاءت كرد فعل على مناورات حلف شمال الأطلسي، فيما دعا كييف إلى التوقف عن "قعقعة السيوف".
تواجه برلين اتهامات من بعض أعضاء "حلف شمال الأطلسي" بأنها باتت شريكاً غير موثوق فيه
ومن هنا، كان على الخطاب الذي ألقاه الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، الذي ينتمي إلى الحزب نفسه، في الثالث عشر من الشهر الحالي خلال حفل فوزه بولاية رئاسية ثانية، أن يحمل تغييراً حذراً في اللهجة تجاه روسيا، وقد تحدث بوضوح عن "مسؤولية" موسكو عن مخاطر "الحرب" في أوروبا، محاولاً توضيح موقف بلاده.
وناشد شتاينماير الرئيس الروسي بالقول: "حرروا الخناق من عنق أوكرانيا، وابحثوا معنا عن طريقة للحفاظ على السلام في أوروبا".
منصب الرئيس في ألمانيا فخري، وخطابه بمثابة سلطة معنوية وطنية تحظى بالاحترام في الداخل والخارج. ومع ذلك، جرى النظر إليه كطريقة للرد على انتقادات كثيرة في الأسابيع الأخيرة لموقف برلين في ما يتعلق بموسكو.
انتقادات لموقف ألمانيا تجاه الأزمة الأوكرانية
وتعرضت ألمانيا لانتقادات بسبب موقفها المتأرجح، ورفضها تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، وسط اتهامات من بعض أعضاء "حلف شمال الأطلسي" لبرلين بأنها باتت شريكاً غير موثوق فيه.
وفي ما يتعلق بكييف، علّق السفير الأوكراني في برلين، أندري ميلنيك، على خطاب الرئيس الألماني، في مقابلة مع الإذاعة العامة الألمانية أخيراً، بالقول "حان الوقت لأن تخلع ألمانيا نظارتها الروسية في إدارة سياستها تجاه أوكرانيا لأنها تشوش رؤيتها".
وفي الحفل نفسه، أعلن شولتز أنه "في حال وقوع عدوان عسكري على أوكرانيا، مما يعرّض سيادتها وسلامة أراضيها للخطر، فإن ذلك سيؤدي إلى عقوبات صارمة، أعددناها بعناية، ويمكننا فرضها على الفور مع حلفائنا في أوروبا وداخل حلف شمال الأطلسي".
ونقلت وسائل إعلام ألمانية عن مسؤولين قولهم إن تشديد لجهة الخطاب الألماني، يعود إلى شعور بالقلق من "تهديد خطير للغاية" في أوروبا. وأقر مصدر حكومي ألماني بأن "قلقنا قد تزايد" بشأن الغزو.
وقال هذا المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته "نعتقد بأن الوضع حرج وخطير للغاية"، في إشارة إلى تحذيرات ومعلومات من واشنطن. وأضاف أن "العديد من العناصر تصب بطريقة مقلقة للغاية، في اتجاه صحة المخاوف الحالية" من غزو عسكري روسي للأراضي الأوكرانية.
تشديد لجهة الخطاب الألماني، يعود إلى شعور بالقلق من تهديد خطير للغاية في أوروبا
ألمانيا ترفض تزويد أوكرانيا بالسلاح
وعلى الرغم من كل الانتقادات والضغوط، رفضت ألمانيا تزويد أوكرانيا بأسلحة "فتاكة"، متخفية وراء سياسة سارية منذ فترة ما بعد الوحدة الألمانية، وتحظر مثل هذه المبيعات في مناطق النزاع.
واكتفت برلين بالاستعداد لفحص الطلبات الأوكرانية المتعلقة بأجهزة الرؤية الليلية على وجه الخصوص، وزيادة مساعدتها الاقتصادية لأوكرانيا. وقد دفعت بالفعل ملياري يورو منذ ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، فيما تطالب كييف بمساعدات بقيمة "عدة مليارات".
وقبل زيارة واشنطن، تعرّض المستشار الألماني لانتقادات عنيفة من قبل أوساط أميركية سياسية وإعلامية، اعتبر بعضها أن الصمت الألماني تجاه تسليح أوكرانيا، يتعارض مع ما تروّج له الحكومة الجديدة من سياسة خارجية قائمة على القيم، بينما كانت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل حلقة الوصل خلال الأزمات، فيما يلتزم شولتز حالياً موقفاً متردداً، على نحو يصعب فيه تبرير ذلك.
وصوّر أعضاء في الكونغرس من الجمهوريين برلين على أنها مناهضة للعقوبات، بسبب اهتمامها بالحفاظ على واردات الغاز من روسيا. لذا، وجد شولتز نفسه في موقف دبلوماسي غير مريح، مرده حالة التردد التي وضعت فيها الدبلوماسية الألمانية نفسها بين حليفتها أميركا وجارتها روسيا، في خضم الأزمة التي فاجأتها.
العقوبات على روسيا و"نورد ستريم 2"
وبالنسبة لشولتز، بدا مشروع خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" كلمة محظورة، إذ حرص على عدم نطقها في واشنطن حين وقف بجوار الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي تبرع ليعلن أنه في حالة العدوان الروسي على أوكرانيا "لن يكون هناك نورد ستريم، سنضع حداً له".
قال بايدن ذلك بنبرة رسمية، متحدثاً عن موقع لا يشمل الولايات المتحدة بأي حال من الأحوال، وعن عقد مبرم بين الشركات الروسية والألمانية فقط.
وفي هذه الحالة، كان بإمكان المستشار الألماني أن يعطي رأيه صراحة في مشروع يتعلق ببلده في المقام الأول، خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2"، الذي كلف بناؤه 11 مليار دولار، واستغرق خمس سنوات.
ومع أن الخط اكتمل منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، لكنه لا يزال ينتظر التفويض بالتشغيل الذي من شأنه مضاعفة استيراد الغاز الروسي من قبل ألمانيا التي تستورد أكثر من 55 في المائة من الغاز الذي تستهلكه من روسيا، عبر خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 1"، الذي يعمل منذ عام 2012. ويتبع "نورد ستريم 2" المسار نفسه الذي يمر تحت بحر البلطيق، على مسافة تزيد عن 1230 كيلومتراً.
صوّر أعضاء في الكونغرس من الجمهوريين برلين على أنها مناهضة للعقوبات
وفي الوقت الذي انخفض فيه احتياطي ألمانيا من الغاز إلى حدود متدنية، ويتعيّن عليها مضاعفة شحنات الغاز الروسي، فإن شولتز آثر الصمت، عملاً بسياسة الغموض الإستراتيجي.
لكنه شدد على أن الولايات المتحدة وألمانيا ستكونان متحدتين تماماً في اتخاذ الخطوات نفسها رداً على أي غزو، وأن هذه الخطوات ستكون صعبة للغاية، في الوقت الذي أبدى فيه ميلاً إلى مواصلة الحوار مع روسيا.
خلفيات الموقف الألماني من الأزمة الأوكرانية
من جهته، تحدث المؤرخ الألماني، هاينريش أوغوست وينكلر، في مقابلة مع صحيفة "لوموند" الفرنسية أخيراً، عن خلفيات موقف ألمانيا من الأزمة الأوكرانية، ورفضها تسليم أسلحة إلى أوكرانيا، وهو الأمر الذي فسره البعض بأن برلين تعطي الأولوية لعلاقاتها مع روسيا قبل كل شيء، وضعيفة بشكل مفرط أمام بوتين.
ونفى وينكلر ذلك، قائلاً "منذ إعادة التوحيد (1990)، وضعت ألمانيا مبدأ عدم تسليم الأسلحة إلى مناطق الصراع، إلا أن هذه العقيدة مطبقة بطريقة مرنة للغاية، ولم تمنع ألمانيا من بيع كميات كبيرة من الأسلحة إلى دول مثل مصر أو قطر أو الإمارات أو تركيا".
وتابع أنه "في حالة أوكرانيا، فإن هذا يمثّل مشكلة خاصة، ويعود إلى الماضي، عندما حث الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، في قمة حلف الأطلسي في بوخارست عام 2008، على انضمام أوكرانيا وجورجيا في نهاية المطاف إلى الحلف. ولم تخف ألمانيا، مثل فرنسا، أنها تعارض ذلك، وفعلت كل شيء منذ ذلك الحين لضمان عدم حدوث هذا الأمر".
واعتبر المؤرخ الألماني هذا الموقف "مسؤولاً ومعقولاً تماماً"، ولهذا السبب تحديداً "من السخف عدم منحهم الوسائل للدفاع عن أنفسهم في حالة وقوع هجوم روسي".
ويمكن تفسير رغبة ألمانيا في بذل قصارى جهدها للحفاظ على الحوار مع روسيا، من خلال العلاقة الخاصة التي تربط هذين البلدين. وفي الوقت الذي لا توجد فيه دولة عضو في حلف الأطلسي تعترض على فكرة التحدث مع الروس، إلا أن هذا الموقف في ألمانيا يقوم على أسس تاريخية عميقة ومعقدة.
فكرة وجود "علاقة خاصة" بين ألمانيا وروسيا راسخة منذ أكثر من قرن، قبل الحرب العالمية الأولى
وفكرة وجود "علاقة خاصة" بين ألمانيا وروسيا راسخة منذ أكثر من قرن، قبل الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918). وقد حظيت روسيا بمكانة في الأوساط الألمانية المحافظة. وفي نظر هؤلاء المحافظين، فإن ألمانيا وروسيا تنتميان إلى نفس "المجتمع الروحي"، في معارضة جذرية لما يسمى بالحضارة المادية الغربية. وحقيقة أن البلدين خاضا حرباً ضد بعضهما البعض في عام 1914، لم تضع حداً لهذه الأسطورة.
وفي ألمانيا، لا يزال الموقف من المسألة الأوكرانية موضع نقاش، ليس بسبب العلاقات التاريخية والعميقة فقط، بل لأسباب اقتصادية. ويكفي معرفة أن المانيا تستورد من روسيا 40 في المائة من حاجتها من النفط و55 في المائة من الغاز الطبيعي.
ولذلك، حذر رئيس وزراء ولاية بايرن، ماركوس زودر، أخيراً، من أن التهديدات و"العقوبات الأقوى" ضد روسيا "لا يمكن أن تكون وحدها الحل". فالعقوبات "منذ مدة طويلة غير مجدية"، وفرض عقوبات جديدة "سيضرنا نحن أيضاً بنفس القدر".
ولا يحظى هذا الموقف بالإجماع داخل الحكومة الألمانية، التي قد تتعرّض إلى هزة في حال تطور الموقف في أوكرانيا نحو الأسوأ وبقاء الموقف الرسمي متذبذباً. وفي جميع الأحوال، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها شولتز من أجل حل الأزمة الأوكرانية، فإنه متهم بالافتقار إلى روح القيادة في هذا النزاع، الذي يعني بلاده أكثر من باقي بلدان أوروبا.