بعد شهرين على الانتخابات البرلمانية الألمانية، التي أجريت في 26 سبتمبر/أيلول الماضي، نجحت أحزاب الاشتراكي الديمقراطي، والخضر، والليبرالي الحر، في التوصل إلى اتفاق على تشكيل ائتلاف حكومي تحت مسمى "إشارات المرور"، أعلن عنه أول من أمس الأربعاء، وذلك بعد مفاوضات شاقة بسبب تباين وجهات النظر حول قضايا مختلفة، وهو ما كان واضحاً من خلال البرامج الانتخابية للأحزاب، لتصبح الطريق مفتوحة أمام الاشتراكي أولاف شولتز لتولي منصب المستشار الجديد لألمانيا، خلفاً لأنجيلا ميركل. ووجّه، ائتلاف "إشارات المرور" الحكومي، الذي قدّم في اتفاقيته وعوداً بتحقيق تقدّم في مجالات التحديث والبحث العلمي والاقتصاد، رسائل حاسمة أيضاً، بالحفاظ على علاقات مميزة مع الحلفاء الأوروبيين و"العودة إلى سياسة خارجية أوروبية نشطة"، وتنشيط التواصل مع الولايات المتحدة، بالتوازي مع مد اليد لحوار "بنّاء" مع روسيا. وقوبل الائتلاف الحكومي بانتقادات من المعارضة، واتهامات بإخفاء زيادات ضريبية، وعدم توضيح كيفية توفير التمويل للمشاريع المطروحة.
سيتم تأجيل هدف الإنفاق الذي التزمت به ألمانيا للأطلسي
وينتظر الائتلاف الجديد مصادقة الأحزاب الثلاثة عليه، حيث يعقد الاشتراكي الديمقراطي مؤتمره الحزبي في 4 ديسمبر/كانون الأول المقبل، والليبرالي الحر في الخامس منه، للتصويت على الاتفاقية. من جهته، بدأ حزب الخضر أمس الخميس عملية الاقتراع الرقمي على اتفاق التحالف، والتي ستستمر على مدى الأيام العشرة المقبلة. وبعد موافقة أحزاب الائتلاف المستقبلي التي تحظى بأكثرية في البوندستاغ، من المتوقع أن يصار إلى انتخاب الاشتراكي أولاف شولتز مستشاراً جديداً لألمانيا بين 6 و9 ديسمبر المقبل من قبل نواب البرلمان، ليتسلم ووزراؤه الحكم بعد تكليفهم من قبل الرئيس الاتحادي فرانك فالتر شتاينماير.
وفي ما خصّ توزيع الحقائب الحكومية، ذكرت صحيفة "بيلد" أمس الخميس، أن الاشتراكي الديمقراطي سينال ست وزارات، إضافة إلى منصب المستشار، فيما سيشغل الخضر خمس وزارات، والليبرالي الحر أربعا، علماً أن اتفاق الائتلاف حدّد ما سيناله كل حزب من وزارات، من دون تحديد الشخصيات الحزبية التي ستشغلها. أما موقع صحيفة "تاغس شبيغل"، فأشار إلى أن وزارة الصحة لا تحظى هذه المرة باهتمام الأحزاب، وأن من الوزارات التي قد ينالها الليبرالي الحر، وزارتي العدل والمالية، فيما ستكون وزارات الاقتصاد والبيئة والأسرة والزراعة والخارجية من حصّة الخضر.
وحملت اتفاقية "إشارات المرور"، الكثير من الأمل بتحقيق تقدم في مجالات التحديث والرقمنة والبحث العلمي وحماية المناخ وجعل الاقتصاد مستداماً، وغيرها من القضايا التي تسهل الحياة على المواطنين مع ما تضمنته من حوافز، لكن يبقى الأبرز في ورقة التحالف، المؤلفة من 180 صفحة تقريباً، القضايا الأساسية المتعلقة بالأمن والسياسة الخارجية والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والبوندسفير (الجيش الألماني).
وفي ما يتعلق بالسياسة الخارجية الألمانية، نصّت اتفاقية الائتلاف على أنه سيصار إلى تطوير استراتيجيات مشتركة عبر الإدارات وتحقيق التوافقات حول القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية والمواقف من أوروبا والهجرة والدفاع ومساعدات التنمية، وكل ذلك من أجل تحديد مصلحة برلين، مع الأخذ بعين الاعتبار المصالح الأوروبية، لا سيما أن ألمانيا الدولة الأكبر داخل الاتحاد الأوروبي، ولها أن تتحمّل مسؤولية خاصة في فهم خدمة الاتحاد ككل. وفي الإطار، قالت الزعيمة المشاركة لحزب الخضر، أنالينا باربوك، وزيرة الخارجية المحتملة في الائتلاف الجديد، إن "ألمانيا تريد العودة إلى السياسة الخارجية الأوروبية النشطة، ما سيعزز السيادة الاستراتيجية لأوروبا، ويجب أن ينطبق قبل كل شيء على إمدادات الطاقة والصحة وواردات المواد الخام والتكنولوجيا الرقمية، بحسب ما ذكرت "فرانكفورتر الغماينه تسايتونغ". وأشارت باربوك إلى أن ألمانيا تريد أن تستثمر 3 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي في العمل الدولي على المدى الطويل، وبالتالي تعزيز دبلوماسيتها وسياستها التنموية والوفاء بالتزاماتها داخل حلف الأطلسي. ويعني ذلك، بحسب باربوك، أن هدف الإنفاق البالغ 2 في المائة الذي التزمت به ألمانيا للحلف لم يتم التنازل عنه، ولكن سيتم تأجيله لأجل غير مسمى بسبب الصياغة التقييدية الطويلة الأجل.
علاوة على ذلك، تسلط الاتفاقية الضوء على شراكة فرنسية - ألمانية قوية داخل أوروبا، واصفة الشراكة عبر الأطلسي بأنها "ركيزة أساسية لعملنا الدولي"، وأنه يجب تجديد العلاقات مع الولايات المتحدة وتنشيطها. وفي ما يتعلق بالصين، فـ"المطلوب تشكيل علاقة بأبعاد الشراكة والتنافس المنهجي، وذلك من أجل التمكن من تحقيق قيمنا ومصالحنا معها"، وفق الاتفاقية. أما العلاقة مع روسيا، فوصفتها الورقة بـ"العميقة والمتنوعة"، مؤكدة أن الحكومة الاتحادية الجديدة ستكون جاهزة للحوار البنّاء، ومبرزة ضرورة التخلي عن محاولات زعزعة استقرار أوكرانيا وإنهاء ضم شبه جزيرة القرم.
سيركز الاشتراكي على قضايا الأمن والعدالة الاجتماعية
وبالنسبة للقضايا العسكرية والأمنية، فمن وجهة نظر الأحزاب الثلاثة، يُقدّم البوندسفير "مساهمة أساسية في الحماية والدفاع عن البلد والشركاء والحلفاء، وعلى الجيش أن يؤدي المهام الداخلية والخارجية على قدم المساواة، وعليه وأن يكون مجهزاً بأفضل الإمكانات مع رفع القدرات لتنفيذ مهامه، وينبغي تزويده بطائرات الاستطلاع، وشراء نظام جديد لطائرات تورنادو". أما الشرطة، فيرغب الائتلاف بتحسين ظروف عملها، كما وتوسيع دائرة التعاون مع حرس الحدود واليوروبول، واعتماد مكتب تحقيق جنائي أوروبي يتمتع بقدرات تشغيلية خاصة. وستصبح مكافحة الجريمة المنظمة، بما في ذلك ما يسمى الجرائم العشائرية، محط تركيز السلطات الأمنية، وسيتوسع نطاق مكافحة غسل الأموال، إلى تكثيف التحقيقات الهيكلية ليتم استخدامها لاختراق الهياكل الإجرامية وتحديد الجرائم الجنائية والأشخاص المشتبه بهم. وفي الكفاح ضد التطرف، دعت الأحزاب الثلاثة إلى استراتيجية شاملة على المستوى الوطني والأوروبي للقضاء على التطرف والحماية الفعالة من المخاطر التي يشكلها الإرهاب اليميني الشعبوي.
في المحصلة، يبرز الاتفاق أن مهام الاشتراكي الديمقراطي، ومن خلال الوزارات التي سيشغلها، ستتركز على قضايا الأمن والعدالة الاجتماعية، بعدما بات شبه مؤكد أنه سيتسلم وزارات الدفاع والداخلية والعمل، فيما سيتفرغ الليبرالي الحر لمعالجة قضاياه المتعلقة بالتعليم والرقمنة. ويتباهى الخضر بوزارتي البيئة والزراعة، اللتين ستسمحان له بتطبيق شعاراته في مجال حماية البيئة والمناخ.
من جهة ثانية، أثار اتفاق التحالف انتقادات المعارضة، وبالأخص حزب ميركل، المسيحي الديمقراطي، المنتقل إلى صفوف المعارضة بعد خسارته في الانتخابات العامة بفارق بسيط لصالح الاشتراكي. ورأى رئيس كتلته في البوندستاغ رالف برينكهاوس، في تصريح تلفزيوني، أنه "تم إطلاق الوعود بسخاء كبير، لكن ليس من الواضح كيف سيتم دعم هذه المشاريع مالياً، وهذا ما يقلقنا". أما زميله، الأمين العام للحزب، بول زيمياك، فوصف الاتفاق بـ"الشاحب والغامض"، فيما اتهم رئيس كتلة الشقيق الأصغر، الاجتماعي المسيحي، ألكسندر دوبراندت، أطراف "إشارات المرور"، بإخفاء الزيادات الضريبية مع التخطيط لإلغاء الإعانات، فضلاً عن أن هناك العديد من "الثغرات" في اتفاقية الائتلاف في ما يتعلق بالديون الإضافية في ألمانيا وأوروبا، إلى المخاوف بما يتعلق بالحوافز الجديدة وتأثيرات الجذب التي ستؤدي إلى مزيد من الهجرة إلى أوروبا وألمانيا، إلى الموافقة على تشريع الحشيش، ومدى تأثير ذلك على جيل الشباب في المجتمع. أما زعيم كتلة "حزب البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي، تينو شروبالا، فاعتبر أن التحالف سيكلف المواطنين غالياً، وهناك تهديد بمزيد من الأعباء المالية والمزيد من السيطرة وتقليل من الحرية.