على الرغم من انتمائهما إلى المعسكر الغربي في أقصى الشرق الآسيوي، وتمتعهما بعلاقات تحالفية استثنائية مع الولايات المتحدة، ومواجهتهما خصوماً مشتركين مثل كوريا الشمالية والصين وروسيا، غير أن العلاقة الكورية الجنوبية ـ اليابانية لم تخرج بعد من ماضيها المظلم، الذي يرخي بثقله على حاضرهما ومستقبلهما في آنٍ.
وتجددت الخلافات بين الحليفين، إثر بدء طوكيو تصريف المياه المشعة من محطة فوكوشيما النووية المعالجة في المحيط الهادئ، على أن تستمر عقوداً.
بدأت أزمة فوكوشيما بسبب زلزال عنيف تلاه تسونامي سببّا حادثاً نووياً أودى بحياة نحو 18 ألف شخص في 11 مارس/آذار 2011، وأدى إلى انهيار 3 من مفاعلات المحطة.
ودفع ذلك طوكيو إلى تخزين أكثر من 1.3 مليون طن من مياه المحطة، من خلال نظام تنقية مخصص معروف باسم "إيه أل بي أس"، وأجرت اختبارات وتحاليل من أجل تصريفها لاحقاً في المحيط الهادئ.
مع اقتراب الموعد المحدد، علت أصوات خصوم اليابان، وأبرزهم الصين وروسيا. وفرضت بكين، مع هونغ كونغ وماكاو، حظراً جزئياً على واردات المأكولات البحرية اليابانية، في حين اعتبرت وزارة حماية البيئة في كوريا الشمالية أن "إطلاق المياه المعالجة سيكون له تأثير ضار قاتل على حياة البشر والأمن والبيئة".
من جهتها، أعلنت وزارة البيئة اليابانية، أمس الأحد، أن الاختبارات التي أجريت على مياه البحر بالقرب من محطة فوكوشيما لم ترصد أي نشاط إشعاعي، وذلك بعد أيام من تصريف مياه معالجة كانت تستخدم لتبريد مفاعلات نووية.
وكانت الشركة القائمة على تشغيل المحطة قد كشفت، الجمعة الماضي، عن أن عينات المياه التي تم تصريفها من المحطة في البحر أظهرت أن مستويات النشاط الإشعاعي في الحدود الآمنة تماماً. وتخطط الجهات المسؤولة في اليابان مواصلة أخذ عينات يومية من الأسماك للتحليل وتقديم تحديثات حول النتائج لمدة شهر تقريباً.
تصريف مياه فوكوشيما المشعّة
أما في كوريا الجنوبية، فاعترض زعيم الحزب الديمقراطي المعارض الرئيسي في كوريا الجنوبية لي جيه ـ ميونغ، على تصريف اليابان المياه المشعة، ووصف قرارها بـ"أسوأ كارثة بيئية للبشر".
وقال لي، خلال اجتماع حزبي الخميس الماضي إنه "إذا داست اليابان على المحيط الهادئ بالبنادق والسكاكين في زمن الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، فإن الأمر الآن يشبه تهديدها للبشر بأكمله بالإشعاع".
وأضاف أن "التاريخ سيذكر يوم 24 أغسطس/آب 2023 باعتباره اليوم الذي ارتكبت فيه اليابان جريمة لا تغتفر". كما ألقت الشرطة الكورية الجنوبية، الخميس الماضي، القبض على 16 طالباً جامعياً حاولوا اقتحام السفارة اليابانية في سيول، احتجاجاً على عملية تصريف المياه المشعة.
سيول: حتى الآن، فإن عملية التصريف تسير بشكل مستقر
ولوحّت سلطات سيول، الخميس، بأنها سترفع دعوى قضائية دولية إذا تجاوز تصريف المياه المعايير. وشدّدت على أنها ستتلقى البيانات ذات الصلة من اليابان في المرحلة الأولية بعد بدء تصريف المياه المشعة، وستراقب مستويات تركيز 69 نوعاً من المواد المشعة.
كما دعا رئيس وزراء كوريا الجنوبية، هان ديوك ـ سو، الخميس أيضاً، اليابان إلى الكشف بشفافية عن المعلومات المتعلقة بتصريف المياه المشعة من محطة فوكوشيما.
وأشار هان في بيان إلى أن "حكومتنا تأمل وتحث الحكومة اليابانية مرة أخرى على الكشف عن المعلومات بطريقة شفافة ومسؤولة حول عملية تصريف المياه، التي ستستمر على مدار الثلاثين عاماً المقبلة". وشدد على "أن القلق المفرط ليس ضرورياً، لأن خطة التخلص من النفايات في المحيط، إذا تم تنفيذها كما هي، لا ينبغي أن تؤدي إلى ضرر كبير".
لكن الجمعة، تحدث النائب الأول لرئيس مكتب تنسيق السياسات الحكومية الكورية الجنوبية، بارك كو ـ يون، خلال إحاطة يومية حول قضية تصريف المياه، وقال إنه "حتى الآن، فإن عملية التصريف تسير بشكل مستقر كما كان مخططاً له في الأصل، ومن المعروف لدينا أنه لا وجود لوضع غير طبيعي في العملية".
ونقلت عنه وكالة "يونهاب" الكورية الجنوبية للأنباء قوله إنه شدّد على أن حكومة سيول تقوم بمراقبة وتحليل عملية تصريف المياه بشكل شامل من خلال "خط ساخن مزدوج" بين السلطات التنظيمية والدبلوماسية في البلدين.
واتفق الجانبان في وقت سابق على تبادل المعلومات بسرعة في حالة حدوث وضع غير طبيعي في مرافق التفريغ. وأكد بارك أنه "ستتخذ الحكومة أفضل إجراءات لمواصلة المراقبة حتى لا يكون هناك أي تأثير على سلامة الناس وصحتهم".
وأول من أمس السبت، تجمع المتظاهرون في سيول، لمطالبة الحكومة باتخاذ خطوات لتجنب ما يخشون أن تكون كارثة تلوح فى الأفق، نتيجة إطلاق تصريف المياه.
وقال تشوي كيونغ ـ سوك من مجموعة مراقبة الإشعاع الكورية "لن نشهد على الفور كوارث مثل اكتشاف المواد المشعة في المأكولات البحرية، لكن يبدو أنه من المحتم أن يشكل هذا التصريف خطراً على صناعة صيد الأسماك المحلية، ويتعين على الحكومة التوصل إلى حلول".
وغادر ثلاثة خبراء كوريين جنوبيين في مجال السلامة النووية إلى اليابان، أمس الأحد، لمراقبة تصريف مياه محطة فوكوشيما. وذكرت وكالة "يونهاب" الكورية للأنباء، نقلاً عن مسؤول لم تذكر اسمه، أن خبراء المعهد الكوري للسلامة النووية بدأوا زيارة إلى مكتب فوكوشيما التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وتأتي هذه الزيارة بعد أن توصلت كوريا الجنوبية واليابان والوكالة الدولة للطاقة الذرية إلى اتفاق بشأن زيارة الخبراء الكوريين الجنوبيين إلى مكتب الوكالة الدولية للطاقة الذرية كل أسبوعين، لمراقبة تصريف المياه.
ضغط الأميركيون من أجل تأمين الاستقرار بين حليفيهما في آسيا
وسبق أن عقد البلدان ثلاث جولات من المحادثات لمناقشة إجراءات المتابعة بعد أن طلب الرئيس الكوري يون سيوك يول من رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، ضم خبراء كوريين جنوبيين لمراقبة تصريف مياه فوكوشيما.
ماضٍ صعب بين كوريا الجنوبية واليابان
بدا الموقف الرسمي لكوريا الجنوبية إزاء محطة فوكوشيما، ومواقف المعارضة والطلاب، متأثراً بماضٍ صعب بين بلدين باتا حليفين. ويعود السبب إلى حقبة الاستعمار الياباني لشبه الجزيرة الكورية بين عامي 1910 و1945.
ولم تكن كوريا حينذاك منقسمة بين شمال وجنوب، وهو أمر حصل بعد اندحار الاحتلال الياباني عنها في نهاية الحرب العالمية الثانية، ووقوع المنطقة تحت تأثير أميركي ـ سوفييتي مشترك، أفضى إلى نشوب حرب أهلية (1950 ـ 1953)، أدت إلى تقسيم شبه الجزيرة الكورية. ولا تزال بيونغ يانغ وسيول في حالة حرب، بفعل عدم توقيعهما اتفاق سلام.
وتخللت فترة الاحتلال الياباني لكوريا اعتداءات لعناصر جيشه على نساء كوريات، في قضية عُرفت باسم "نساء المتعة". وتتمحور القضية حول إجبار نحو 200 ألف كورية، على الأقل، على تقديم خدمات جنسية للجيش الياباني بين عامي 1932 و1945، على خلفية وعود كاذبة بالتوظيف، إذ وقعن ضحية ما يرقى إلى مخطط ضخم للاتجار بالبشر يديره الجيش الياباني.
وفي عام 1991، أدلت الناشطة الحقوقية الكورية الجنوبية الناجية في تلك القضية، كيم هاك ـ سون بشهادتها علناً عن تجربتها، وذلك في أعقاب الكشف عن وثائق في أرشيف الجيش الياباني ربطت الجيش والحكومة اليابانية في زمن الحرب بإدارة "نظام نساء المتعة".
واعتذرت اليابان رسمياً لكوريا الجنوبية في عام 1992 عن هذه الاعتداءات الجنسية، لكنها رفضت تعويض الضحايا، على اعتبار أنه تمّت تسوية التعويض عن العمل القسري بموجب معاهدة موقعة في عام 1965 بين طوكيو وسيول، لتطبيع العلاقات الدبلوماسية وتقديم المساعدة الاقتصادية لكوريا الجنوبية.
مع ذلك، توصل البلدان في عام 2015 إلى تسوية أصدرت طوكيو بموجبها اعتذاراً رسمياً للنساء الكوريات الجنوبيات، وقدمت مليار ين (نحو 9.23 ملايين دولار في حينه) لصندوق خُصص لمساعدة الضحايا. لكن الرئيس الكوري الجنوبي السابق مون جاي ـ إن حل الصندوق في عام 2018، مما أدى فعلياً إلى إلغاء الاتفاقية لأنه قال إنها لا تزيل مخاوف الضحايا.
وفي عام 2018 أيضاً أمرت المحكمة العليا في كوريا الجنوبية شركات يابانية، مثل "نيبون ستيل آند سوميتومو ميتال كورب" و"ميتسوبيشي"، بتعويض بعض عمال السخرة في زمن الحرب، لكن الشركات والسلطات اليابانية رفضت ذلك.
وتدهورت العلاقات في عام 2019 مع تقييد اليابان صادرات المواد عالية التقنية إلى كوريا الجنوبية، وتهديد كوريا الجنوبية بالانسحاب من اتفاق لتبادل المعلومات الاستخباراتية مع اليابان، لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة تحت ضغط من الولايات المتحدة على حليفيها لإصلاح العلاقات.
خلافات على جزر
وبالإضافة إلى هذه الخلافات، فإن جزراً في منتصف المسافة البحرية بين كوريا الجنوبية واليابان، تمثل مشكلة أخرى. تُطلق سيول اسم دوكدو على الجزر، بينما تُسمّيها طوكيو بجزر تاكيشيما، أما الدول الغربية فتدعوها بـ"صخور ليانكور"، نسبة لسفينة صيد الحيتان الفرنسية "ليانكور"، التي تحطمت على صخور تلك الجزر أثناء رحلة صيد عام 1849.
تعود مسألة الخلاف على الجزر إلى نحو 1500 عامٍ، بحسب المؤرخين، الذين لم يتفقوا على أحقية أي من الدولتين على الجزر، البالغة مساحتها 187.55 كيلومتراً مربعاً.
والجزر عبارة عن جزيرتين رئيسيتين: جزيرة الشرق وجزيرة الغرب، ونحو 90 جزيرة بركانية صغيرة. والحديث لا يدور حول المساحة الضئيلة للجزر، بقدر ما يدور حول أهمية الحيّز البحري لها، سواء في الثروة السمكية وصيد الحيتان، أو تبيان وجود حقول للغاز الطبيعي هناك.
مجموعة جزر وقضية "نساء المتعة" تهيمنان على علاقة سيول بطوكيو
مع ذلك، فإن تنامي خطورة كوريا الشمالية في الأشهر الأخيرة، في ظلّ تكثيف تجاربها الصاروخية، وأيضاً مع ارتفاع منسوب التهديدات الصينية لتايوان، فضلاً عن استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا، كلها عوامل تُساهم في التبريد الجزئي للخلافات بين البلدين، وتؤجلها حتى إشعار آخر، خصوصاً مع دفع الولايات المتحدة البلدين إلى تكثيف تعاونهما السياسي والعسكري، ضمن تحالف يضمها إليهما.
كما أن الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك ـ يول زار اليابان في مارس/آذار الماضي، وحثّ على تجاوز الماضي للعمل باتجاه المستقبل، حتى أنه خلال الاحتفال بـ"يوم التحرير" من الاحتلال الياباني في 15 أغسطس الحالي، أكد أن طوكيو وسيول هما "حالياً شريكان يتشاركان القيم العالمية وتربطهما مصالح مشتركة".
وتلا ذلك لقاء ثلاثي جمع يون مع الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في كامب ديفيد في الولايات المتحدة في 18 و19 أغسطس الحالي.
وأكد بيان أميركي ياباني كوري جنوبي مشترك التزام الدول الثلاث بالتشاور الفوري وتنسيق الاستجابات للتحديات الإقليمية والاستفزازات والتهديدات التي تؤثر على مصالحها وأمنها المشترك. والتزم القادة بتقوية اقتصاداتهم ودعم السلام والأمن الإقليمي والعالمي وتعزيز التنسيق الإستراتيجي، واتفقوا على مجموعة من الخطوات الرامية إلى تعزيز التعاون الثلاثي، تشمل عقد اجتماعات ثلاثية سنوية بين قادة الدول، وكذلك وزراء الدفاع والخارجية والتجارة والخزانة.
ووصف الرئيس الأميركي القمة الثلاثية بالحدث التاريخي، وقال إنها تمثل حقبة جديدة في العلاقات بين الدول الثلاث، مؤكدا أن القمة خلصت إلى رفع مستوى التعاون الدفاعي في مواجهة الأخطار التي قد تواجهها الدول الثلاث.
وهو ما يُشير إلى أن كوريا الجنوبية واليابان تبحثان عن تهدئة بحكم الضرورة في هذه الفترة، لكنها لن تلغي الخلافات العميقة، خصوصاً في حال وصول المعارضة إلى السلطة في سيول، رغم سيطرتها الجزئية على الجمعية الوطنية (البرلمان)، لاستحواذها على 183 مقعداً من أصل 300، لكن صلاحيات الرئيس في كوريا الجنوبية واسعة. فالرئيس هو رئيس الحكومة، وقائد الدولة، ورئيس الأركان العامة للقوات المسلحة في كوريا الجنوبية. وللرئيس صلاحية إعلان الحرب، واقتراح التشريعات على الجمعية الوطنية.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)