"سيل الشمال 2"... جسر ألماني يصعب هدمه مع روسيا

08 مارس 2021
اكتمل خطّ الغاز بنسبة 96 في المائة (أود أندرسن/فرانس برس)
+ الخط -

يلعب المال دوراً لا بأس به في تحديد برلين علاقتها بروسيا

السياسة الخارجية الألمانية "أصبحت أكثر بحثاً عن التسويات"

ارتفعت نسبة الراغبين الألمان في مزيد من التعاون مع روسيا

تثير مواقف برلين مما يعتبره الأوروبيون انتهاكات روسية متكررة لحقوق الإنسان والقانون الدولي، وآخرها أزمة اعتقال المعارض الروسي ألكسي نافالني، وتوتر العلاقة بين دول الشمال الأوروبي في منطقة البلطيق، جدالاً داخل أوروبا، وبينها وبين الولايات المتحدة. ويجد السياسيون في ألمانيا أنفسهم متهمين بالتراخي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيما هم يبررون ذلك باسم "سياسة التسويات" و"مصالح وسيادة الاتحاد الأوروبي" في مواجهة ضغوط الحليف الأميركي. ويُسوّق هؤلاء السياسيون، وخصوصاً في معسكر يمين ويسار الوسط المتحالف برئاسة المستشارة أنجيلا ميركل، أسباباً كثيرة لانتهاج سياسة أكثر استقلالية و"حوارية" تجاه موسكو.
صحيح أن ميركل ولدت وكبرت في ألمانيا الشرقية سابقاً، وهي ذات معرفة واسعة في الشؤون الروسية، لكن يبدو أن لغة المصالح التي تستند إلى الحوار خلصت إلى استمرار التزام المستشارة الألمانية باتفاقية "سيل الشمال 2" (نورد ستريم 2) لنقل الغاز الروسي، المثيرة للجدل، بعدما شكّل هذا الخطّ منذ سنوات أرضية لتوتر علاقة برلين بدول أوروبية صغيرة من ناحية، خصوصاً في دول الشمال والبلطيق، وبواشنطن من ناحية ثانية. 

يُسوّق معسكر يمين ويسار الوسط في ألمانيا، أسباباً كثيرة لانتهاج سياسة أكثر استقلالية و"حوارية" مع موسكو

وعلى الرغم من أن أوروبا اتخذت مواقف سياسية ودبلوماسية متشددة حيال موسكو، بدءاً من العام 2014، بعد ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، واتهامها بالتدخل في شؤون أوكرانيا، فإن برلين بقيت متمسكة باستكمال "سيل الشمال 2"، حتى بعد استهداف معارضين لروسيا على أراضيها. هذا الأمر رفع وتيرة التوتر بين برلين وواشنطن في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، إذ وجدت مجموعات المصالح الأميركية في خطّ الغاز الروسي تهديداً لها ولمصالح شركاء أوروبيين.
هكذا، وصلت علاقة الحليفين الألماني والأميركي إلى الحضيض، وعبّر عن ذلك قرار واشنطن بسحب آلاف الجنود المتمركزين في هذا البلد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945). وكانت قد سبقت ذلك أيضاً خلافات على السياسة المرتبطة بحلف شمال الأطلسي (الناتو) والحرب التجارية الأميركية ضد الشركات الأوروبية الكبيرة، واعتبار ترامب الاتحاد الأوروبي، الذي تقود قاطرته الاقتصادية ألمانيا، "عدواً" لبلاده. ودفعت هذه التوترات المستشارة ميركل للتشديد على أنه ينبغي على أوروبا الاعتماد أكثر على نفسها.
تأثير المال والسياسة 
يلعب المال، الذي يقاس بمليارات الدولارات، دوراً لا بأس به في تحديد برلين علاقتها بروسيا، وغيرها من الدول. وفي هذا السياق، تذكير بالدور الذي لعبه المستشار السابق لألمانيا، غيرهارد شرودر، في تعزيز العلاقة التجارية مع موسكو. فعدا عن أنه تحول إلى مستشار اقتصادي للكرملين، بما فيه ما يرتبط بخطّ الغاز "سيل الشمال 2"، وصل حجم صادرات الشركات الألمانية إلى روسيا في العام 2018 إلى نحو 25.9 مليار يورو.

ويحتل "سيل الشمال 2"، الممتد لـ1230 كيلومتراً في مياه بحر البلطيق، اليوم، مكانة هامة في علاقة الطرفين، فهو بحسب قناة البث العام في ألمانيا "زد إف"، سيكون قادراً على إرسال 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً إلى 26 مليون منزل أوروبي. وهذا الخطّ ليس مصلحة روسية خالصة فقط، وإن امتلكت شركة "غازبروم" الروسية (الحكومية) 51 في المائة من أسهمه. فالألمان والهولنديون والفرنسيون، ومن خلال شركات متعددة، يملكون بقية الحصص، وهو ما يزعج أيضاً أوكرانيا، وسياسييها، الذين يرون أن بلادهم تخسر كثيراً في تحول إمدادات الغاز إلى خارج أراضيهم.

وتتداخل أرقام المال وحيثيات السياسة في علاقة موسكو وبرلين، مع تعقيدات الوضع الداخلي في ألمانيا، وخصوصاً في جانبها الشرقي، الذي عرف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية قبل الوحدة في العام 1990. ففي هذا الجزء من البلاد، تتعاظم النقمة على الطبقة السياسية التقليدية، وتندفع الأفكار المناهضة للعداء مع روسيا. ووصف المؤرخ الألماني من جامعة بون، مارتن أوست، تلك المشاعر بأنها تخلق "رومانسية روسية" لدى فئات ألمانية تشعر بالإحباط نتيجة فوارق معيشتها مع أشقائها في غرب البلد. الخبير في شؤون تاريخ أوروبا الشرقية، أوست، رأى في تصريح للصحافة الألمانية، الأسبوع الماضي، أن السياسة التقليدية لبرلين في الإبقاء على خطوط علاقة بموسكو "ليست جديدة، فهي تستند إلى مشاعر الذنب لفترة الحرب العالمية الثانية، والتي عبّر عنها الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير".
وكان شتاينماير قد صرح أخيراً في مقابلة مع صحيفة "راينشه بوست"، رداً على سؤال حول العلاقة بين بلاده وروسيا، على خلفية اعتقال نافالني (في موسكو) وخطّ "سيل الشمال 2"، بأن بلاده تسعى إلى البحث مرة أخرى عن "نقاط اتصال مع روسيا وتحويل السيئ إلى الأفضل من أجل المستقبل". وبعد تأكيده رفض اعتقال المعارض نافالني، شدّد شتاينماير على أن بلاده، وعلى الرغم من أنها لم تدخل بعد في حوار مع الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة حول "سيل الشمال 2"، فإنها "يصعب عليها هدم الجسر، ولا توجد جسور بديلة مع روسيا". وأضاف شتاينماير أنه "بالنسبة لنا كألمان، هناك بُعد مختلف تماماً في العلاقة، فلقد مررنا بمراحل شراكة مثمرة، ويصادف يوم 22 يونيو/ حزيران المقبل الذكرى الـ80 للغزو الألماني للاتحاد السوفييتي، فأكثر من 20 مليون شخص وقعوا ضحية الحرب، وهذا بالطبع لا يبرر أخطاء السياسة الروسية اليوم، لكن يجب ألا نغفل الصورة الأشمل". وختم الرئيس الألماني جوابه بالقول: "نعم، نحن نعيش في علاقات حاضر صعب، لكن هناك ماضياً ومستقبلاً بعده".
تغير مزاج الشارع 
لم تبدأ العلاقة الألمانية – الروسية فقط منذ أن اختار الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف سياسة الانفتاح وذهاب ألمانيا إلى الوحدة، بل هي أبعد من ذلك، وعبّر عنها بوضوح نهج المستشار الألماني الأسبق فيلي (ويلي) برانت (1969 - 1974)، الذي حوّل الحرب الباردة إلى فرص تعاون بين الطرفين من خلال سياسة الحوار مع أوروبا الشرقية وموسكو. تسارع وتيرة "سياسة الحوار" خلال السنوات الماضية بين برلين وموسكو، بدل التصادم، ردّها المؤرخ مارتن أوست إلى ما أطلق عليه مصطلح "العامل الأميركي"، فـ"انتقاد أميركا والرأسمالية يضفي طابعاً رومانسياً على تقارب الطرفين".

تتعاظم النقمة في شرقي ألمانيا على الطبقة السياسية التقليدية، وتندفع الأفكار المناهضة للعداء مع روسيا

وبالنسبة للباحث والخبير الألماني في الشأن الروسي من مركز التفكير "هاينريش بول ستيفتونغ" ستيفان مايستر، فإن السياسة الخارجية الألمانية "أصبحت أكثر بحثاً عن التسويات". ورأى مايستر أن برلين لا تنتهج تلك الاستراتيجية فقط مع روسيا، فـ"ألمانيا باتت أكثر بحثاً عن التسويات في سياستها الخارجية، وهي السياسة ذاتها المتبعة في التعاطي مع الصين وإيران". وأضاف الباحث، في أحاديث صحافية عدة، معلقاً على متغيرات السياسات الخارجية لبلاده، أن "النخب السياسية الألمانية تعيش اليوم ثقافة سياسة أقرب إلى ما يتوقعه الجمهور في المصالح".
هذا الواقع هو الذي عبّر عنه مقرر الشؤون الدفاعية في حزب ميركل، "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، يوهان وادفول، وذلك في مقالٍ مطول في "تاغ شبيغل". واعتبر وادفول أنه "لا جدوى من التخلي عن نورد ستريم 2، ولا حتى من استخدامه كوسيلة احتجاج وضغط"، مطالباً عوضاً عن ذلك الاتحاد الأوروبي بانتهاج سياسة بديلة، وبعدم التصعيد مع موسكو، في ظلّ فرض واشنطن عقوبات بحقّها.
تعويل السياسيين الألمان على منهج التسويات، رأى مايستر أنه غير نافع طالما أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يتردد في استغلال الوضع. واعتبر مايستر في هذا السياق، أن "سياسة التسويات ليست ثقافة في روسيا لتحسين العلاقات، بل لإضعاف الاتحاد الأوروبي، وهذا يوضح أن خطّ الغاز سياسة روسية أتت أُكلها، فهو نجح في إضعاف العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة".
توقعات الجمهور الألماني في تحقيق السياسة الخارجية مصالح بلادهم، تعكسها منذ العام 2019 الاستطلاعات التي تجريها مؤسسة "كوربر"، والتي أشار إليها تقرير متخصص في "دير شبيغل"، في مايو/ أيار الماضي، متحدثاً عن ارتفاع نسبة الراغبين الألمان في "مزيد من التعاون مع روسيا"، والتي وصلت إلى 66 في المائة. وارتبط هذا الارتفاع مع جائحة كورونا، التي غيّرت أيضاً من نظرة الألمان إلى علاقة بلادهم بالقوى العظمى. فبعدما كان ينظر 50 في المائة من الألمان في العام 2019 إلى أهمية العلاقة بواشنطن، أدت سياسات ترامب إلى تراجع هذه النسبة إلى 37 في المائة فقط، مع ملاحظة أن نسبة مؤيدي التقارب مع بكين تراجعت، العام الماضي، إلى 24 في المائة من 37 في المائة في 2019، وارتفعت نسبة المشككين بالدور العالمي للصين إلى 71 في المائة.

استمرار واشنطن بتطبيق العقوبات على الشركات الأوروبية المساهمة في الخط، يضع أثقالاً جديدة على برلين

بشكل عام، فقد غيّرت الأحداث والتطورات الدولية من نظرة الألمان إلى دور ومصالح بلادهم العالمية. ففي العام 2014، عبّر 37 في المائة فقط عن رغبتهم برؤية دور أكبر لبلادهم في السياسة العالمية، فيما كان 67 في المائة منهم مع الانكفاء والتركيز على الداخل. لكن هذه النسبة قفزت في العام الماضي من 37 إلى 73 في المائة لصالح تدخل برلين بما تملكه من مكانة اقتصادية، لحلّ المشاكل العالمية ولمزيد من التعاون مع دول العالم، ولو تطلب ذلك تنازلات ألمانية، وفقاً لتقرير شامل لـ"شبيغل". ويظهر من تغير مواقف الشارع الألماني حيال سياسة بلادهم الخارجية، أنهم متأثرون بكورونا، حيث رأى 85 في المائة منهم أنه من الواجب عودة الشركات الهامة إلى الإنتاج على الأراضي الألمانية، واعتبر 65 في المائة أن العولمة باتت تؤثر سلباً عليهم.
التأثير الأميركي باق 
طرح وزير خارجية ليتوانيا (من دول البلطيق)، غابريليوس لاندسبيرغيس، على وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، فكرة تجميد استكمال "سيل الشمال 2" (الذي اكتمل بنسبة 96 في المائة) حتى الانتخابات البرلمانية الروسية في الخريف المقبل، بحجة "منح (الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين الفرصة لإجراء انتخابات حرّة لمجلس الدوما بمشاركة المعارضة". وعلى ما يبدو، فاستمرار السياسة الأميركية بتطبيق العقوبات على الشركات الأوروبية المساهمة في الخط، حتى مع قدوم الإدارة الديمقراطية برئاسة جو بايدن، يضع أثقالاً جديدة على سياسيي برلين. فعدا عن اختلاف الأوروبيين حيال التعاطي مع مخاوف "وقوع أوروبا تحت ابتزاز الغاز الروسي"، وهي مبررات ساقتها إدارة ترامب لفرض عقوبات في العام 2019 على شركات أوروبية تتعامل مع الخطّ، فإن الخارجية الأميركية، التي أجلّت صدور تقريرها عن "سيل الشمال 2"، تحاول تفهم الموقف الألماني، بحسب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن. وفي الوقت ذاته، تؤكد واشنطن مضيها في سياسة العقوبات، مع ارتفاع الأصوات الرافضة لأي تراخ، وبشكل خاص من السيناتور الجمهوري تيد كروز.
وأكدت وزارة الخارجية الأميركية، على لسان المتحدث باسمها نيد برايس، الأسبوع الماضي، أن "انسحاب الشركات الأوروبية (بريطانية وسويسرية) من المشروع (بفعل العقوبات) دليل على أن الولايات المتحدة مستمرة بفرض العقوبات". وعلى الرغم من تأكيد الوزارة أنها ستستمع إلى آراء الشركاء الأوروبيين في هذا المجال، إلا أن مشروع "سيل الشمال 2" يبدو أنه يتحول إلى مؤشر لقياس ما إذا كانت ضفتا الأطلسي قادرتين على الوصول إلى "تسويات" بينهما، في ظلّ استمرار تمسك برلين بثقافة التسويات (مع موسكو) التي خلقتها ظروف خاصة بألمانيا، وفي دول الجوار.
وبغضّ النظر عن اسم المستشار الألماني الذي سيخلف ميركل في المنصب (الانتخابات العامة متوقعة في سبتمبر/ أيلول المقبل)، يبدو أن مصاعب كثيرة تقف في طريق تنقية علاقة الحليفين الألماني والأميركي، فيما الرئيس الروسي، كما وصفه الخبير مايستر، مستمر في استغلال كلّ الثغرات لتقسيم مواقف الاتحاد الأوروبي.

المساهمون