تتجه "هيئة تحرير الشام" ("جبهة النصرة" سابقاً)، إلى مزيد من تنظيم نفسها في مناطق نفوذها شمال غربي سورية، خصوصاً في إدلب ومحيطها. فبعد هيكلتها جهازاً أمنياً بات الأقوى في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في سورية، ومحاولة ضبط الجانب المدني والخدمي والاقتصادي عبر "حكومة الإنقاذ" التابعة لها، يأتي الدور على تنظيم الجانب العسكري الأهم بالنسبة لـ"تحرير الشام"، وذلك انطلاقاً من عملية التجنيد وقبول المنتسبين.
دعت "الهيئة" الراغبين إلى الانتساب لجناحها العسكري
ويقرأ مراقبون اتجاه "هيئة تحرير الشام" إلى مزيد من التنظيم، ضمن مسعاها لفرض نفسها أمام الغرب والمجتمع الدولي عموماً، كجزء من معادلة الحلّ السوري مستقبلاً. ودلّت الفترة السابقة على هذا المسعى لـ"الهيئة"، من خلال تغير مفردات خطابها، وظهور قائدها أبو محمد الجولاني بحلّة عصرية لدى لقائه صحافياً أميركياً (مارتن سميث) قبل أشهر، تبعه تصريح من مكتب العلاقات الإعلامية في "الهيئة" وصفته "تحرير الشام" بـ"الهام"، بأنه "من الواجب علينا كسر العزلة، وإبلاغ واقعنا بكل السبل الشرعية المتاحة، وإيصال ذلك إلى شعوب الإقليم والعالم، بما يساهم في تحقيق المصلحة ودفع المفسدة لثورتنا".
لكن "الهيئة" لا تزال تواجه مشكلة إدراجها على لوائح الإرهاب الأميركية مع الكثير من قياداتها، والتي تطلبهم للاعتقال أو التصفية، وذلك من خلال الإعلانات المتكررة من قبل واشنطن عن مكافآت كبيرة للإدلاء بمعلومات حول قيادات "الهيئة". ويجعل كل ذلك من خطوات "تحرير الشام"، بلا فاعلية حقيقية في الميزان العام للقضية السورية وسبل حلّها، والأطراف القابلة لتكون جزءاً من الحل.
وانتشرت في الأيام القليلة الماضية على حسابات تتبع لـ"هيئة تحرير الشام"، إعلانات مرئية تدعو الراغبين للانتساب في الجناح العسكري لـ"الهيئة"، مع تخصيص أرقام للتواصل مع مراكز، تكون بمثابة شُعب تجنيد نظامية في ثماني مدن وبلدات في إدلب. وتناقلت صفحات نشطاء في إدلب تصريحات المتحدث باسم الجناح العسكري في تحرير الشام"، أبو خالد الشامي، يشرح فيها بالتفصيل هذه الخطوة بقوله: "يأتي تأسيس شعب التجنيد في المناطق المحررة، بالتوازي مع التطورات العسكرية التي تشهدها المنطقة ومواكبةً مع المرحلة الحالية، وكنّا في هيئة تحرير الشام خلال الفترة السابقة نعتمد على مكاتب انتساب، واليوم تطورت إلى شعب تجنيد، وهي 8 شعب رئيسية موزعة ومنتشرة في كل جغرافيا المناطق المحررة".
وأضاف الشامي: "تتركز وظائف شعب التجنيد على استقبال وتنظيم الراغبين في الانضمام إلى صف الثورة والدفاع عن الأراضي المحررة، وذلك من خلال منظومة عسكرية متكاملة في مختلف التخصصات، حيث حددت سن الانخراط من 18 إلى 35 سنة، وتشرف هذه الشُعب عبر لجانها المختصة على تقييم المنتسبين بعد اجتيازهم البرنامج التدريبي وفق معايير عسكرية معينة، ثم فرزهم حسب التخصصات والصنوف العسكرية". ونوّه إلى أن "هذه الشعب تهتم برفع الكفاءة العسكرية للمنتسبين وتطوير المجال العسكري لتأهيل وتخريج نوعية مقاتلين أكثر حنكة وتدريبا، استعداداً للمراحل المقبلة من الدفاع عن المحرر وتحرير الأراضي التي احتلتها المليشيات الأسدية".
وخلال الفترة الماضية، خرجت أصوات دولية تنصح الولايات المتحدة بإعادة تقييم "تحرير الشام" والتفكير في التعامل معها كأمر واقع، كونها القوة الأكثر تنظيماً في الشمال السوري، بما يساهم في إنجاز الحل السوري، وإيقاف ذرائع النظام وحلفائه، لا سيما الروس، بالتمدد أكثر داخل مناطق سيطرة المعارضة السورية، وتحديداً في إدلب والشمال الغربي. وضمن ذلك، جاءت ورقة "مجموعة الأزمات الدولية" مطلع فبراير/شباط الماضي للإدارة الأميركية، والتي تتضمن نصائح لرفع "تحرير الشام" من تصنيفها كمنظمة إرهابية. وأشارت المجموعة حينها، إلى أنه "إذا كانت إدارة (الرئيس الأميركي) جو بايدن تسعى إلى تصحيح السياسة الخارجية المفرطة في العسكرية التي تنتهجها واشنطن، فإن هناك فرصة في إدلب لإعادة تعريف استراتيجية الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب، في المنطقة التي وصفها مسؤولون أميركيون ذات يوم بأنها أكبر ملاذ آمن للقاعدة، ولم تعد المحافظة السورية الشمالية الغربية كذلك". ونوهت المجموعة إلى أن "حدّة هيئة تحرير الشام، وهي الجماعة المتمردة الأكثر هيمنة في إدلب، انكسرت، وتسعى الآن للدخول في مجال المشاركة السياسية بشأن مستقبل سورية".
لا تزال "تحرير الشام" تواجه مشكلة إدراجها على لوائح الإرهاب الأميركية مع الكثير من قياداتها
وتتحكم "هيئة تحرير الشام" في إدلب ومحيطها بكثير من القطاعات، لا سيما في الجانب الاقتصادي الذي ضبطته من خلال "حكومة الإنقاذ". وفي حين يأخذ المدنيون في إدلب عليها الهيمنة على هذا الجانب، إلا أنهم يقرّون بتفوقها في ضبط الجانب الأمني بنسبة كبيرة، إذ باتت الهيئة تمتلك جهازاً أمنياً كبيراً قوامه ستة آلاف أمني مدربين بشكل جيد، أظهروا قدرة واضحة على ضبط الانفلات الأمني السابق. وهذا الجهاز استخدمته "الهيئة" لمكافحة العناصر والتنظيمات المتشددة الأخرى في إدلب لجهة تحجيمها، لا سيما خلايا "القاعدة" وتنظيم "حراس الدين".
وفي هذا السياق، رأى الباحث في الشأن السوري والجماعات "الجهادية"، عرابي عرابي، أن "الهيئة بدأت خطوات عقلنة في اتجاهين، سواء على مستوى العناصر فيها، أو على مستوى شكل التنظيم"، مشيراً في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "شكل التنظيم تغيّر في الهيئة من جهة الهرمية والشكل العام، أما لجهة العناصر فلاحظنا تغيراً في نوعية الخطاب، وباتت للهيئة أخيراً مؤسسات تتبع لها بشكل أو بآخر كحكومة الإنقاذ، وهذه الأخيرة أيضاً أنشأت مديريات ومؤسسات ذات صبغة حكومية، والهيئة ذاتها باتت لديها موارد مالية كبيرة تأتيها من تلك المؤسسات". ورأى أن "هذا الواقع أفرز شبكة علاقة من نوع معين بين الهيئة والناس في إدلب، سواء من خلال التوظيف أو غيرها من العلاقات الاقتصادية، وهذا الشيء يمكن وصفه بأنه أمر واقع". ولفت عرابي إلى أن "الهيئة اليوم، تسعى إلى تصدير موقف للغرب بأنها مقبولة شعبياً وتمتلك السلطة والسطوة، حيث تبرز إعادة هيكلة الجناح العسكري والقوة المسلحة فيها، كأحد أهم أشكال ذلك".
أما بالنسبة لضبط مسألة التجنيد وتنظيمها، فنوه عرابي إلى أن "لذلك وجهين: الأول فرض سلطة الهيئة في المنطقة، وهي رسالة تجاه باقي الفصائل، أما الثاني فيتعلق بأنها موجودة في الشمال الغربي لضبط الأمور، ومنع حدوث أي خرق غير مسؤول في المنطقة بإمكانه زعزعة وتأزيم جزئية من القضية السورية في المنطقة المسيطرة عليها، للقول إن لديهم نموذج حوكمة واضحا، يمكن للجميع التعامل معه".