يتعرّض مسجد الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، جنوب الضفة الغربية المحتلة، المدرج في لائحة التراث العالمي، وفقاً لمنظمة "اليونسكو" في عام 2017، لعمليات تشويه معالمه الأثرية وباحاته التاريخية، بحجة تركيب "مصعد كهربائي"، فيما الهدف فرض الاحتلال الإسرائيلي سيطرته الكاملة على رابع أقدس مكان إسلامي في العالم، والإبقاء عليه مشرعاً أمام اقتحامات المستوطنين المتطرفين.
ووصل العمل لتركيب وتشغيل سلطات الاحتلال الإسرائيلي المصعد الكهربائي داخل الحرم الإبراهيمي إلى مراحله الأخيرة. فقد ركبت، أول من أمس السبت، زاوية حديدية بجانب الحرم الإبراهيمي، وذلك بعد الانتهاء من تركيب هيكل المصعد الكهربائي قبل أيام في محيطه، لتسهيل اقتحامه من قبل المستوطنين.
🟢 سلطات الاحتلال تركب زاوية حديدية بجانب الحرم الإبراهيمي
— اليوم الإخباري (@alyawmnewspal) June 4, 2022
✨ التفاصيل:👇https://t.co/cEnbHD5Q7H
وفي نهاية مايو/ أيار المنصرم، باشرت سلطات الاحتلال بهدم وتجريف عدد من الدرجات الأثرية، وتركيب هيكل المصعد، الذي يتشكل من مقطعين، الأول طولي بارتفاع 10 أمتار تقريباً، وآخر عرضي، متصل بالباب الغربي للحرم الإبراهيمي، باستخدام معدات ثقيلة وشاحنات، جرى إدخالها خلسة تحت جنح الظلام.
ويرى الفلسطينيون أن تركيب المصعد خطوة جديدة تهدف إلى "تهويد الحرم الإبراهيمي وتغيير هويته الحضارية الإسلامية"، وهي الأخطر منذ المجزرة التي ارتكبها المتطرف باروخ غولدشتاين داخله وأدت إلى استشهاد 29 فلسطينياً وإصابة العشرات في الخامس والعشرين من فبراير/شباط عام 1994.
ويكشف الناشط عيسى عمرو، منسق "شباب ضد الاستيطان"، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن التفكير بإنشاء المصعد بهدف تسهيل اقتحامات المستوطنين للمسجد هو تفكير قائم منذ عدة سنوات، وحاز على مصادقة رئيس حكومة الاحتلال الحالي نفتالي بينت، الذي كان يشغل حينها منصب وزير الدفاع في حكومة بنيامين نتنياهو، بمصادرة أراض تقع بمحاذاة المسجد الإبراهيمي، لإقامة ممر ومصعد وجسر لمقتحمي المسجد من المستوطنين، بادعاء تسهيل وصول "الحالات الإنسانية من ذوي الإعاقات"، ورصدت له ميزانية تقدر بمليوني شيكل (الدولار الواحد يساوي 3.3 شيكلات).
لكن العمل على الأرض، كما يوضح عمرو، بدأ فعلياً في أغسطس/آب الماضي، حيث جرى مسح المنطقة وإنجاز التصاميم الهندسية، بإشراف مجلس التنظيم الأعلى، أحد أذرع الإدارة المدنية الإسرائيلية بالضفة الغربية، حيث ينفذ المشروع الاستيطاني على أرض تابعة لوزارة الأوقاف الإسلامية الفلسطينية تزيد مساحتها على 300 متر مربع عبارة عن حديقة توراتية وساحة انتظار للسيارات ومسار لمرور الأفراد، إضافة لنحو 91 متراً كحيز للمصعد.
ويلفت عمرو إلى أن "شباب ضد الاستيطان" بالتنسيق مع بلدية الخليل ومديرية الأوقاف ولجنة إعمار المسجد الإبراهيمي توجهوا إلى القضاء الإسرائيلي، وقد أدلى خبراء آثار إسرائيليون بشهادتهم مبينين تبعات إقامة المصعد، واعتبار ذلك خرقاً للاتفاقيات التي تمنع تغيير معالم المواقع الأثرية.
يقول عمرو: "لقد اعتمدنا في مرافعاتنا على قرار لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة (اليونسكو)، الصادر في يوليو/ تموز 2017، إدراج الحرم الإبراهيمي والبلدة القديمة في الخليل على لائحة التراث العالمي، لكن دون جدوى، فالقضاء جزء من المنظومة الاحتلالية".
ويضيف عمرو: "للأسف لم ألمس جدية فلسطينية في متابعة الملف، لن أقول أكثر من هذا، لكننا أمام سباق استيطاني محموم في الضفة الغربية بشكل عام وفي الخليل وبلدتها القديمة بشكل خاص، لفرض أمر واقع قائم على تهويد كافة الأماكن الدينية والتراثية والتاريخية، وفي حال بقي التعاطي الفلسطيني معها خجولاً، فلن تكون هناك نتيجة مرجوة".
ويفند عمرو ادعاءات الاحتلال بأن غاية المصعد إنسانية، وهي تمكين ذوي الإعاقة من الوصول إلى الحرم الإبراهيمي والصلاة فيه، ويقول: "خلال جلسات المحكمة ادعى الاحتلال أن الهدف من المصعد تمكين اليهود والمسلمين وأي سائح أجنبي من ذوي الإعاقة والمرض من الوصول إليه وزيارته، فكان ردنا أننا كمسلمين وفلسطينيين لا نصل إلى المنطقة الغربية التي أقيم فيها المصعد إلا عشرة أيام فقط طيلة السنة، وبالتالي فهذه حجة باطلة، إضافة أصلاً للتضييقات التي لا تتوقف بحق المصلين، ومنعهم من الدخول إليه من بابه الرئيسي في كل الأوقات".
خطة التهويد
وكانت محكمة الاحتلال قد أصدرت بتاريخ 12 مايو/أيار 2020، أمرين عسكرين بهدف شق طريق ملتوٍ يصل إلى الحرم الابراهيمي عبر ساحاته الخارجية، والمصادقة على رخصة بناء مصعد للحرم، وبتاريخ 8 يوليو/تموز 2020، قدّم الفلسطينيون اعتراضاً للمستشار القانوني الإسرائيلي، وفي 19 يوليو من العام ذاته تم رفضه، ومن ثم قدموا اعتراضاً آخر أمام اللجنة الفرعية للبناء في مقر الإدارة المدنية المركزي بالضفة الغربية في مستوطنة "بيت إيل" المقامة على أراضي مدينة البيرة الملاصقة لمدينة رام الله، وسط الضفة الغربية، ضد المصادقة على رخصة بناء المصعد.
ولكن بتاريخ 30 سبتمبر/ أيلول 2020، صادق الاحتلال على رخصة البناء، وفي 28 أكتوبر/تشرين الأول 2020، جرى تقديم استئناف أمام اللجنة العليا ضد قرار اللجنة الفرعية بالمصادقة على الرخصة، ولكن اللجنة العليا صادقت على الرخصة.
عاد الفلسطينيون بتاريخ 9 ديسمبر/كانون الأول 2020، لتقديم التماس للمحكمة المركزية ضد قرار اللجنة العليا بالمصادقة على الرخصة، فجمد العمل حتى تاريخ الثالث من مارس/آذار 2021، وبعد ذلك رفضت المحكمة المركزية الالتماس، وفي 9 مارس 2021، قدّم استئناف آخر للمحكمة العليا ضد قرار المحكمة المركزية القاضي بالمصادقة على رخصة البناء، وطلب وقف رخصة البناء، إلا أنه وبتاريخ 20 إبريل/نيسان 2021، رفضت المحكمة العليا طلب التجميد.
ووفق الناشط عمرو، فإن رفض طلب التجميد أعطى مبرراً للشروع في تنفيذ رخصة بناء المصعد والطريق، موضحاً أن الذي رفض أمر التجميد قاضٍ يقطن إحدى المستوطنات المقامة عنوة على أراضي المواطنين في الضفة الغربية، وانتقاماً من الملتمسين فرض غرامة على المستأنفين، وهم بلدية الخليل ولجنة الإعمار ووزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية.
المجزرة مستمرة
ما يجري، بحسب مدير المسجد الإبراهيمي حفظي أبو اسنينة، في حديث لـ"العربي الجديد"، هو أن المسجدَ مكان أثري يمثّل قلب مدينة الخليل، ومشروع المصعد هو استفزاز لمشاعر المسلمين ومحاولة جدية لتهويد المسجد وبسط النفوذ على باحاته، مشدداً على رفضه تغيير معالم المسجد التاريخية والأثرية والدينية، كون "هذا المشروع جزء من عدة مشاريع استيطانية تهدف لتحويل الهوية العربية الإسلامية للخليل إلى هوية يهودية عبرية وسرقة للتاريخ الفلسطيني".
ويرد أبو اسنينة على ادعاءات الاحتلال، قائلاً: "أي غايات إنسانية تلك التي يتحدثون عنها، فالبلدة القديمة في الخليل مزروعة بالحواجز العسكرية التي يزيد عددها على عشرين حاجزاً، وهي تحول دون وصول الفلسطينيين للمسجد لأداء الصلاة، فالأولى إزالتها حتى نصل بحرية للصلاة فيه".
ويتابع أبو اسنينة: "لو كان الأمر كذلك لما أدخلوا المعدات الثقيلة كاللصوص ليلاً، ولما اعتدوا على حرمة المكان وأثريته بتجريف المنطقة وقص درج الحرم الإبراهيمي، في خطوة تهدف إلى تغيير معالم هذا الموروث التاريخي والحضاري".
ويطالب أبو اسنينة المجتمع الدولي بالتدخل فوراً لحماية المسجد الإبراهمي والوقوف أمام مسؤولياته وتطبيق قرار منظمة "اليونسكو"، باعتبار الحرم الإبراهيمي موقعاً تراثياً عالمياً، مبيناً أنّ المؤسسات الفلسطينية الرسمية تتابع القضية قانونياً مع المؤسسات الدولية.
ووفق أبو اسنينة، فإن سلطات الاحتلال ومنذ مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994 عاقبت الضحايا بفرض سيطرتها عليه وعلى البلدة القديمة برمتها بهدف تهويده، وتهويد محيطه بشكل كامل، غير مكتفية بجريمة تقسيمه".
ويشير أبو اسنينة إلى أن سلطات الاحتلال تنتهك كل القوانين والأعراف والاتفاقات الدولية تجاه الحرم الابراهيمي، والبلدة القديمة في الخليل، من منع رفع الأذان فيه، ومنع وصول الفلسطينيين إليه والصلاة فيه في أغلب الأيام، وتفتحه للمستوطنين الذين يدنسونه ويواصلون أعمالهم العدائية ضد الفلسطينيين فيه وفي محيطه بشكل يومي، ضاربين عرض الحائط بكل القرارات الدولية في ظل صمت دولي صارخ، خاصة بعد إقدام سلطات الاحتلال على طرد بعثة المراقبة الدولية في الخليل في بداية العام 2019.