"أبانا الذي في القصر"

30 يوليو 2021
خلال تظاهرة في تونس ضد انقلاب قيس سعيّد (جديدي وسيم/ Getty)
+ الخط -

قبل أن يخط الأميركي نعوم تشومسكي أفكاره عن تحكم الأنظمة الشمولية بالجماهير، عرفت ذاكرة عرب المشرق هذه الحالة من منطلق رعايا "الأب القائد" غير الراشدين. وبين "الحركة التصحيحية" في انقلاب حافظ الأسد في دمشق عام 1970 وانقلاب تونس عام 2021، الذي سارع البعض لنعته بـ"حركة 25 يوليو"، أنهار دماء ومعاناة وتأخر في البلاد. فباسم "التقدمية" أضحينا أمام آلهة حكم عربي متوارث، وإن مات الإله سمي "القائد الخالد" و"باني البلاد".

وباسم "محاربة المؤامرة" يُداس على الدساتير، وللمفارقة بتأييد "دستوريين" و"ثوريين وراثيين" يستحضرون مشهد حشد "الجماهير" المؤيدة لـ"المخلص"، الذي يمقت بالأصل صناديق الديمقراطية وأحزابها، ولو لم تختلف كثيراً عن كونها ديكورات تملق للغرب.

القول إنه لا يمكن مقارنة ما يجري في تونس بانقلابات أخرى، هو قول مكرر تفضحه نتائج تجارب عربية غارقة في كذبة المفاضلة بين ثنائية الانقلاب و"الإسلام السياسي"، حيث المقصلة تطاول الجميع، بعد نهاية حفلة الحشد.

وعلى الرغم من ذلك، يتفق كثيرون على أن تونس "ثورة 2010"، التي شهدت العديد من الانتخابات والاستفتاءات الديمقراطية، وتعاقبت فيها 13 حكومة و3 رؤساء، وسادت في ظلها حريات واسعة، ونالت رباعيتها "نوبل للسلام"، لن تقبل بسطحية المفاضلة بين تلك الثنائية. فهي لم تعش عثرات الاقتصاد والعدالة الاجتماعية بسبب تزوير الأسباب افتعالاً، ولم يكن حجم مشاكل ممارسة الديمقراطية بأحجام حنين طبقات فساد متداخلة المصالح إلى نظام قديم، وبرعاية إقليمية لتثبيت مقولة: "هذا ما يستحقه العرب".

ليس في تونس وحدها، بل من المشرق إلى المغرب، ثمة جيل لم يعد يسترشد بثقافة تملّق النخب عن "أبانا الذي في القصر". ويلتقي جيل 2021 على أنّ الأزمة لم تعد فقط مع أنظمة "الأب القائد"، إنما مع موروث إزاحة الشعب عن تقرير مصيره. فهالة القداسة لا تتساوى والمنطق السليم في قراءة واقع الأوطان التي تعيش في كنف "آباء" مكررين من دمشق فبيروت إلى القاهرة، مثلما عاشت صنعاء وطرابلس وبغداد بالأمس.

وعليه، فإنّ مشاكل تونس وأخواتها ليست الديمقراطية والدساتير، التي تكفل بعضها نظرياً ما تكفله عند الجيران الأوروبيين، بل في الثقافة السياسية عند النخب، من كل التيارات، التي تعيش بنفسها مآزق موروثة لعقود خلت.

ببساطة، فإن صيغ "أبونا المخلص" ما عاد لها سوى النخب المأزومة ومريديها، الذين يرون الجماهير جاهلة، لا تعرف من تختار ولا من تسقط في صناديق الديمقراطية.

المساهمون