2023 عام سوري ثقيل آخر

01 يناير 2024

طفل سوري فوق أنقاض مبنى دمّرته غارة روسية في أرمناز في إدلب (26/12/2023/الأناضول)

+ الخط -

مرّ عام 2023 ثقيلاً على السوريين، مع استمرار معاناتهم، وغياب أي بوادر لحلّ سياسي، في ظل مواصلة قوات نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين هجماتها وقصفها على ما تبقّى من مناطق سيطرة المعارضة في محافظة إدلب وجوارها، واستمرار الكارثة الإنسانية التي سبّبتها حرب النظام الشاملة على غالبية السوريين، منذ انطلاق ثورتهم في منتصف مارس/ آذار 2011.
إذاً، انقضى عام آخر، ولم تشهد القضية السورية خلاله أي تطوّرات إيجابية باتجاه إيجاد مخرج سياسي لها، على الرغم من أحاديث وتصريحات كثيرة، أطلقها ساسة (ومسؤولو) القوى الدولية والإقليمية المتدخلة في الشأن السوري، عن انتفاء حلّ للأزمة في سورية بالطرق العسكرية، لأنهم لم يبذلوا أي جهودٍ تُذكر في هذا الصدد، حيث توقّفت اجتماعات اللجنة الدستورية، بعد أن عقدت ثماني جولات فاشلةٍ بين وفدي المعارضة والنظام، ولم يتمكّن المبعوث الأممي الخاص إلى سورية غير بيدرسون من الحصول على موافقة الروس ونظام الأسد من أجل عقد جولة جديدة لها، بعد اعتراض الروس على عقد اجتماعاتها في جنيف، بحجّة موقف سويسرا غير المحايد من الغزو الروسي لأوكرانيا، ومع ذلك، لم يتخلّ بيدرسون عن مهمّته التي باتت شكلية، وغير مُجدية، ولا يملك الجرأة الكافية كي يحمّل نظام الأسد مسؤولية فشله، بل عوضاً عن ذلك، استمرّ في محاولاته استمالة النظام لقبول مقاربة "خطوة مقابل خطوة"، التي اجترحها بيدرسون ولم تلق أي استجابة من النظام.
ميدانياً، لم يطرأ أي تغيّر، خلال هذا العام، على خريطة مناطق السيطرة على الأرض، ولا على خطوط التماسّ بين قوى وسلطات الأمر الواقع الأربع، وظلت نِسب السيطرة ثابتة بشكل عام بينها، الأمر الذي يشير إلى ثبات في الموازين بين قوى الاحتلال، ويوحي باكتمال الصراع، ولو بشكل مؤقت، في سورية وعليها، بوصفه صراع نفوذ إقليمي ودولي بين كل من روسيا وإيران وإسرائيل والولايات المتحدة وتركيا، حيث تواصل سلطات وقوى الأمر الواقع التحكّم بالسوريين في مختلف أجزاء سورية، بالاستناد إلى دعم قوى الاحتلال ووجودها.

بات ملايين السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ولا يستطيعون تأمين حاجياتهم اليومية

غير أن ثبات توازن القوى الدولي والإقليمي لم يمنع نظام الأسد من استغلال الانشغال العربي والدولي بالحرب الإسرائيلية الوحشية على الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية، كي يصعّد من وتيرة هجمات قواته على مناطق إدلب وجوارها، كما أن بشّار الأسد استغلّ دعوته إلى القمّة العربية الإسلامية في الرياض، في نوفمبر/ تشرين الثاني، كي يتحدّث عن جرائم إسرائيل، وعن تفوّق الصهيونية على نفسها في الهمجية، في حين أن العالم أجمع شهد حجم ممارساته الوحشية والهمجية ضد السوريين والفلسطينيين في سورية، إذ لا تزال حفرة حي التضامن في دمشق شاهدة على إحدى جرائمه الكثيرة، فضلاً عن مجزرة غوطتي دمشق، التي ارتكبها مستخدماً الأسلحة الكيمياوية ضد المدنيين العزل في 21 أغسطس/ آب 2013.
داخلياً، واجهت نظام الأسد معضلات عديدة، حيث شهدت مناطق سيطرته حالات تذمّر كثيرة، نظراً إلى التردي الاقتصادي والأمني المستمر، الذي أدّى إلى ضائقة معيشية خانقة، تمظهرت في طوابير طويلة للسوريين، بغية الحصول على بعض المواد الأساسية، وخصوصا الخبز والغاز والمازوت، إلى جانب ارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية، والتدهور المستمر في سعر صرف الليرة، وارتفاع نسب البطالة، وانتشار الجريمة. وبحسب تقارير أممية عديدة، بات ملايين السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ولا يستطيعون تأمين حاجياتهم اليومية، إلى جانب أن مناطق سيطرة النظام شهدت تردّيا غير مسبوق في الأوضاع الأمنية، وسطوة مليشيات نظام الملالي الإيراني، وما تسمّى القوات الرديفة وقطعان الشبّيحة، بعد أن حوّلها نظام الأسد إلى مركز لإنتاج المخدرات وتهريبها، خصوصا حبوب الكبتاغون.

سادت حالة من الغضب غير مسبوقة في مناطق تعدّ حاضنة النظام الاجتماعية، بسبب الأوضاع المعيشية الكارثية

لم تهدأ الأوضاع داخل مناطق سيطرة نظام الأسد طوال عام 2023، حيث يواصل أهالي محافظة السويداء احتجاجاتهم السلمية ضد النظام. وعلى الرغم من دخولها شهرها الخامس، لم يُظهر المحتجون سوى تصميمهم على المضي في حراكهم حتى يتحقّق ما يطمحون إليه في التغيير السياسي، والخلاص من نظام لم يجلب لهم سوى الكوارث، بينما سادت حالة من الغضب غير مسبوقة في مناطق تعدّ حاضنة النظام الاجتماعية، بسبب الأوضاع المعيشية الكارثية، حيث جاهر عدد من الموالين له في المطالبة بتغيير أحوالهم الحياتية والاقتصادية والاجتماعية، وارتفعت أصواتٌ تطالب بإنقاذ الأوضاع ووقف الانهيار، إلى جانب تجرّؤ أصوات أخرى على انتقاد بشّار الأسد، واتهامه بالوقوف وراء شبكات الفساد والنهب، فظهرت حملات ضد رأس النظام والحاشية المقرّبة منه، خاصة في مدن (ومناطق) اللاذقية وجبلة وسواهما.
بدا نظام الأسد عاجزاً وفي غاية الارتباك، بالنظر إلى عدم قدرته على إغراء المحتجّين في السويداء وسواها بوعود كاذبة، حيث لم يعد بإمكانه استخدام الأكاذيب نفسها التي استخدمها من قبل، مثل الإرهاب والمؤامرة والهواجس الطائفية، بما يعني فقدانه ذرائع استخدام القوة لإنهاء الحراك الاحتجاجي، إضافة إلى الخشية من انفجار الأوضاع وتوسّع الحراك الاحتجاجي ليشمل باقي مناطق سيطرته.

عاد نظام الأسد إلى مقعده في جامعة الدول العربية، وأجرت بعض أنظمة الخليج خطوات تطبيع مجانية معه

عربياً، عاد نظام الأسد إلى مقعده في جامعة الدول العربية، وأجرت بعض أنظمة الخليج خطوات تطبيع مجانية معه، من دون أن تربطها بخطوات تصبّ في صالح انخراطه بحل سياسي، بل طرح ساسة الأردن بالتفاهم مع نظرائهم في السعودية والإمارات "مبادرة عربية"، تركّز على استمالة النظام ومحاورته، بغية تسوية موضوع اللاجئين ووقف تهريب مخدّراته إليها، لكن النظام طالب العرب والمجتمع الدولي بأن يدفعوا ثمن عودة السوريين إلى بلادهم، بحجّة أن عودتهم تتطلب أموالاً لبناء متطلبات تلك العودة من "إعادة إعمار وتأهيل البنى التحتية بكافة أشكالها"، و"دعمها بمشاريع التعافي المبكر"، مع أنه، في حقيقة الأمر، يريد الحصول على الأموال، ليس من أجل تأمين عودة اللاجئين، بل من أجل أن يسرقها، ويخفّف من آثار أزمته الخانقة، مثل ما سرق مساعدات منكوبي الزلزال الذي ضرب تركيا وشمالي سورية في فبراير/ شباط الماضي. أما مطالبة الأردن بوقف تهريب المخدّرات إليه، التي وصفها بعض مسؤوليه بحربٍ ضروس على حدود بلادهم الشمالية مع سورية، فإن نظام الأسد استمرّ في تهريب المخدّرات، ولم تتوقف المواجهات بين الجيش الأردني وعصابات التهريب التي يشرف عليها نظام الأسد ومليشيات النظام الإيراني، وأفضت إلى سقوط قتلى وجرحى في صفوف الجيش الأردني، الأمر الذي يشير إلى أن كل الجهود الأردنية، ومعها جهود التطبيع العربية، ذهبت هباء. والأنكى أن نظام الأسد أعلن، في أكثر من مناسبة، تنصّله من المسؤولية في تهريب المخدّرات، ولم يلتزم بشيء مما طالبت به عمّان وعواصم التطبيع العربي، على الرغم من أن الأردن هو أحد الفاعلين الأساسيين في مسار إعادة إدماج النظام عربياً. وكان لافتاً أن عمليات التهريب أخذت في التزايد خلال الشهر الأخير من هذا العام، واقترنت بمحاولة تهريب أسلحة وصواريخ. وفي وقتٍ تحدّث فيه مسؤولون أردنيون عن تغيير قواعد الاشتباك في التعامل مع عمليات التهريب، طوّرت عصابات المهرّبين من أساليبها، وراحت تستخدم أدوات جديدة لم تكن مستخدمة، مثل البالونات الطائرة على اختلاف أحجامها، والتي تحمل، في جوفها، كميات من مختلف أنواع المواد المخدّرة والأسلحة، إضافة إلى الطائرات المسيّرة.

حوّل نظام الأسد مناطق سيطرته إلى مركز لتصنيع المخدّرات وتهريبها إلى البلاد العربية والعالم، وبات يعتاش على ما تدرّه عليه من أموال ضخمة

لم يكترث نظام الأسد بأي بادرة عربية أو دولية تسعى إلى إيجاد حلّ سياسي في سورية، فهو حوّل مناطق سيطرته إلى مركز لتصنيع المخدّرات وتهريبها إلى البلاد العربية والعالم، وبات يعتاش على ما تدرّه عليه من أموال ضخمة، وبالتالي، لا يهمّه حجم الكارثة التي سبّبها لسورية والسوريين، بل ما زال يُصدر مراسيم تقضي بمصادرة أملاك السوريين، وباستدعاء ضباطه المتقاعدين كي يشركهم في حربه. 
وفي الشمال الشرقي، تبدو سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي ومخرجاته السياسية والعسكرية مشغولة بإنتاج عقد اجتماعي متخيّل لسورية متخيّلة، متجاوزة ما تقوم به من انتهاكات، تسهم في تعميق كارثية أوضاع السوريين، الأكراد والعرب، القاطنين في مناطق سيطرتها، والحال ينطبق كذلك على ما تقوم به هيئة تحرير الشام على السوريين في مناطق سيطرتها في محافظة إدلب، وكذلك فصائل ما يسمى "الجيش الوطني" التابعة لتركيا، ولا يختلف وضع السوريين في كارثيته عن أشقائهم في مناطق دير الزور وما حولها. أما هيئات المعارضة التي تدور في فلك تركيا وسواها، فقد فقدت، منذ زمن، أيّ أهليةٍ أو شرعيةٍ في تمثيل السوريين، وباتت تمثل هيئات نفعية ومصدر ارتزاقٍ لمجموعةٍ ضيقةٍ من الأشخاص.    
الحاصل أن عام 2023 لم يغير شيئاً في وضع القضية السورية، وليس هناك ما يؤشّر إلى أن يكون 2024 أفضل، بل ستستمرّ معاناة السوريين في الداخل وفي بلاد المهجر، إذ لا يلوح أي بصيص ضوْءٍ في نهاية النفق المظلم، في ظلّ عدم اكتراث المجتمع الدولي ولامبالاته بأوضاعهم، وغياب أي أفقٍ للحلّ السياسي، وإصرار النظام وحلفائه في النظاميْن، الروسي والإيراني، على المضي في نهجهم المتّبع تنفيذاً لسياساتهم وأجندتهم.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".