05 نوفمبر 2024
أميركا ... وديموقراطية عرجاء
أميركا التي ما فتئت ترسل جيوشها لتطبيق الديموقراطية، وتدّعي مساعدة الشعوب الواقعة تحت قبضة الديكتاتوريات، أميركا التي أتقنت إدارة الحروب في كل العالم، ودعمت أنظمةً تمارس التنكيل بشعوبها، التي تبرّعت لإسرائيل بالقدس كاملة ومنحتها السيادة على الجولان المحتل، وأقرّت شرعية الاستيطان، وتعاملت مع العالم كلّه أنها سيدته، وأنها حامية القضايا وشرطي البحار والمحيطات، وضابط التجارة العالمية، أميركا التي يتصدّر تمثال الحرية لديها موقعًا رمزيًا في نيويورك، يطلّ على خليجها ليكون في استقبال كل زائري البلاد بشعار يطلق على التمثال "الحرية تنير العالم"، وتجاهر بصون الحريات وعدم التمييز، أميركا التي هي حلم في بال غالبية شعوب الأرض، باعتبارها بلد الفرص وبلد التعدد وبلد المساواة، أميركا هذه تتعرّى بسرعة كبيرة على الملأ.
هل ما يشهده العالم اليوم هو مؤشر على تحوّل في الفكر البشري؟ وهل يمكن اعتبار لحظة كورونا نقطة مفصلية أم أن القالب قد ضاق بالبشرية، وما كورونا غير الشرارة التي أشعلت الفتيل، ولو لم تكن لكان هناك غيرها مما يمكن أن يشعله؟ لا يمكن غض الطرف أو الاستهتار بقيمة المظاهرات التي تشتعل اليوم في الولايات المتحدة، ولا الغفول عن تأثيرها على البشرية جمعاء، فأميركا قائدة العالم، بحكم القوة الاقتصادية والعسكرية، جعلت من أقطاب الأرض كلها مرتبطة بسياستها التي تعرف كيف تديرها من رأس الهرم، وتسعى دائماً إلى إشعال الحروب وإدارتها، وهناك نماذج عديدة تقدم البرهان الدامغ، ومنها المنطقة العربية.
أزمة اليوم هي أزمة اقتصاد عالمي، وأزمة عولمة تأسست وترسخت بتخطيط (وتنفيذ) رأس
المال العالمي الذي ابتدع الاحتكارات والشركات العابرة للحدود، وسعى إلى تأسيس أسواقه وفق معايير رسمها بطريقة جعلت من العالم مرتبطًا بها، فقد صاغ الحياة وجعلها مبنيةً على احتياجات تزداد يومًا بعد يوم، هو يبدعها وليس فقط حتمية التطور والحاجة إليها. والاقتصاد الأقوى منذ عقود في العالم هو الاقتصاد الأميركي، لكن هل تكفي القوة الاقتصادية والعسكرية فقط لضمان الاستقرار وتمكين القوة والسيطرة والسيادة إلى الأبد؟ ها هي أميركا تتفاقم أزماتها بسرعة لافتة، ليس فقط بسبب كورونا الذي كشف الغطاء عن هشاشة النظام الصحي في أكبر اقتصاد في العالم، ليس هشاشته فقط، بل لا إنسانيته أيضًا، فمواطنون أميركيون عديدون غير قادرين على تحمّل أعباء الضمان الصحي ولا تكاليف العلاج، كما أظهرت الأزمة تجذر التناقضات الاجتماعية والطبقية المقيتة في المجتمع، تلك الطبقية التي تشكل مع الزمن إحساسًا بالقهر والظلم والتمييز، وليس مفاجئًا ظهور أكبر نسبة إصابة بكوفيد - 19 وأعلى نسبة وفاة في الأحياء الفقيرة المهمشة التي تقطنها الغالبية السوداء في أميركا، تلك الشريحة التي تعاني من التهميش، على الرغم من كل النضالات التي خاضتها والأثمان التي دفعتها في مسيرتها النضالية لأجل انتزاع حق المواطنة والاعتراف بأفرادها بأنهم ينتمون إلى مرتبة الإنسان، بعدما شكلوا عقودًا العبيد الأفارقة الذين بنيت على أكتافهم أميركا، مثلما تأسست على إبادة أصحاب الأرض من الهنود الحمر.
ليس موت المواطن الأميركي الأسود، جورج فلويد، خنقًا تحت ركبة الشرطي الأبيض، وهو ما أكده الطبيب الشرعي الذي كلفته العائلة بمعاينة الجثة، وحده ما دفع الجماهير الغاضبة إلى ثورتها، على الرغم من فداحة الجرم ورمزيته، بل إن تراكم اللامساواة والتمييز والفقر والتهميش لدى أميركيين كثيرين كان لا بد له من أن ينفجر في لحظة ما، وكانت اللحظة في تلك الجريمة التي عرّت الكذب والنفاق، خصوصًا لدى رأس الهرم في أميركا، لدى رئيسها الذي من المفترض أو الواجب عليه أن يكون رئيسًا لكل الأميركيين، وليس لذوي البشرة البيضاء أو اللوبي الذي دعمه وأوصله إلى تبوؤ الرئاسة، ويعقد الآمال والصفقات عليه ومعه من أجل الانتخابات المقبلة، فإذا كان كل زعيم سياسي يظهر على شاشة التلفزيون يضع مسبقًا قناعًا على وجهه، لكي يقول ما يدغدغ عواطف الجماهير، لا ما يعتقد في أعماقه فعليًا، كما قيل، فإن هذا الرئيس الأرعن، الذي اختبأ في قبو محصن في البيت الأبيض مع عائلته، عندما شعر بغضب الجماهير وقد اقترب منه، هذا الرئيس بذل وجهه كاملًا بفجورٍ لا يوصف. قال المرشح الديموقراطي للرئاسة جو بايدن: "إن الحقد يختبئ ولا يزول، وعندما ينفخ من في السلطة في الحقد الكامن تحت الصخور يخرج هذا الحقد"، إذ لم تُنسَ تصريحات ترامب وأفعاله العنصرية منذ توليه الرئاسة، وما زال يعيدها ويؤكّدها في تغريداته وخطاباته. وظهر منذ توليه الرئاسة ومركز القرار أنه ليس أكثر من نموذج أو نسخة عن الأنظمة التي يساندها على حساب شعوبها، وعن معارضتها المستنسخة عنها أيضًا.
وها هو المثال الحي على طريقة أدائه وتعاطيه مع المظاهرات التي خرجت في ولايات أميركية كثيرة تنديدًا بردة الفعل هذه، وطالب حكام الولايات باتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه المتظاهرين. ليس هذا فحسب، بل إن كم الأفواه طاول الصحافة والإعلام أيضًا، فلقد اعتدنا على التغريدات النارية، والتي تحمل طابع التهديد أحيانًا من الرئيس ترامب، ومنها تصريحاته المعادية لوسائل الإعلام، وجديدها ما غرّد به يوم الأحد الفائت: وسائل الإعلام العرجاء تبذل كل ما في وسعها لبث الكراهية والفوضى، وما دام الكل يفهم ما تفعله وأنها أخبار كاذبة، وأنهم أشرار حقًا لهم برنامج يثير الاشمئزاز، فبإمكاننا شق طريقنا إلى العظمة غير عابئين بهم... إنها ليست العظمة بمعناها النبيل، بل هي "جنون العظمة" عند شخص أرعن مثله.
تطالعنا وسائل الإعلام والميديا، التي صارت أعقد من أن تحاصر وتُضبط اليوم، بالممارسات
التي يتم بواسطتها التعامل مع المراسلين من مختلف أنحاء العالم في معقل الديموقراطية والـ "الحرية التي تنير العالم"، فقد تعرّض فريق "دوتشه فيله" في مدينة مينيابولس في الولايات المتحدة إلى إطلاق نار من قوات الشرطة، ومنع من تغطية الاضطرابات الجارية هناك. وقد شهدت الطواقم الصحافية التي تتابع الأحداث ما يقرب من أربعة وعشرين عملًا من أعمال العنف.
تعرّض مراسل المحطة إياها، شتيفان سايمونز، والمصور المرافق له، لقذيفة مطاطية مع تهديد بالاعتقال في حال استمرار بالتغطية. كذلك تعرض يوم الجمعة الفائت مراسل محطة سي. أن. أن، عمر خيمنز وطاقمه، إلى المنع وتم القبض عليهم على الهواء في أثناء تغطية الاحتجاج على مقتل جورج فلويد في مينيابولس، وأصيب مراسل "رويترز" ومستشارها الأمني برصاص مطاطي، وتعرّضت مراسلة قناة في ولاية كنتاكي للعنف أيضًا وصرخت على الهواء "أتعرّض للضرب بالنار". كل هذا ولم يمضِ أسبوع على الاحتجاجات، إنه مثال آخر على "الحرية التي تنير العالم" من منطق الحاكم الأبيض الأميركي، فكيف يمكن التصديق، بعد كل هذه البراهين، أن أميركا كانت صديقة أي شعب ينشد الحرية، ومن بينها شعبنا السوري؟
عندما ننقد الرئيس ترامب، وسقوطه الأخلاقي في تعامله مع المظاهرات ومع احتجاجات شعبية محقة، فهذا لا يعني أننا نجنح نحو الضفة الأخرى، كما يتوقع أن يردّ بعضهم. ليس صحيحًا أن هناك دولًا تعيش شعوبها في جنة نعيم، ففي أكثر المجتمعات رفاهًا وتحقيقًا لمبادئ العدالة والمساواة والحرية والتعبير وغيرها من الحقوق، وأكثرها حصولًا على حياة لائقة ومعيشة بالحد الأدنى من المنغصات، فإن هناك دائمًا أسبابًا للمعاناة وعدم رضى عن أداء حكوماتها، أو شعورًا
بظلم يقع عليها في مكان ما. لذلك نرى أفرادًا مجتمعين ضدّ الحكومة أو ضد المؤسسات القائمة ما إن يتفاقم لديهم الإحساس بالقهر أو الإخفاق في تحقيق الطموحات، حتى ينتفضوا في وجه الحكومات، وليس أكثر استخفافًا بالشعوب ومطالبها أكثر من وصف حراكها بأن هناك "مندسّين" بينهم أو "إرهابيين" يريدون النيْل من هيبة الدول وحكوماتها "النزيهة". وقد استعمله الرئيس الفرنسي ماكرون قبل الرئيس ترامب عن غليان موجة "السترات الصفراء"، إن فيه نكرانًا لحقوق الشعوب. الأمور يجب أن تُرى بعينين وليس بعين واحدة، وهذا لا يعني كذلك أن الأنظمة الشمولية في الدول الأخرى هي جنات النعيم، وهي صديقة الشعوب وضامنة الحريات، بل إن الحريات محاصرة والحقوق مهدورة وكم الأفواه كبير، وليست هناك حرية صحافة وإعلام، لكن الفقاعة الأميركية الملونة التي بهرت جماعات سياسية وأنظمة عديدة، يجب أن يُشار إليها، وعلى العالم أن يعتبر ويعرف كل شعب كيف يدير شؤونه ويدير سياساته أيضًا.
الديموقراطية، إلى اليوم، هي النظام الأكثر ضمانًا لحقوق الشعوب وإدارة حياتها، الديموقراطية بمفهومها النزيه من كل تحوير وممارسات عرجاء. لذلك على الشعوب أن تجد طريقها إليها وتصنع ديموقراطيتها الحقة، وتتعاون لحماية تلك القيمة.
أزمة اليوم هي أزمة اقتصاد عالمي، وأزمة عولمة تأسست وترسخت بتخطيط (وتنفيذ) رأس
ليس موت المواطن الأميركي الأسود، جورج فلويد، خنقًا تحت ركبة الشرطي الأبيض، وهو ما أكده الطبيب الشرعي الذي كلفته العائلة بمعاينة الجثة، وحده ما دفع الجماهير الغاضبة إلى ثورتها، على الرغم من فداحة الجرم ورمزيته، بل إن تراكم اللامساواة والتمييز والفقر والتهميش لدى أميركيين كثيرين كان لا بد له من أن ينفجر في لحظة ما، وكانت اللحظة في تلك الجريمة التي عرّت الكذب والنفاق، خصوصًا لدى رأس الهرم في أميركا، لدى رئيسها الذي من المفترض أو الواجب عليه أن يكون رئيسًا لكل الأميركيين، وليس لذوي البشرة البيضاء أو اللوبي الذي دعمه وأوصله إلى تبوؤ الرئاسة، ويعقد الآمال والصفقات عليه ومعه من أجل الانتخابات المقبلة، فإذا كان كل زعيم سياسي يظهر على شاشة التلفزيون يضع مسبقًا قناعًا على وجهه، لكي يقول ما يدغدغ عواطف الجماهير، لا ما يعتقد في أعماقه فعليًا، كما قيل، فإن هذا الرئيس الأرعن، الذي اختبأ في قبو محصن في البيت الأبيض مع عائلته، عندما شعر بغضب الجماهير وقد اقترب منه، هذا الرئيس بذل وجهه كاملًا بفجورٍ لا يوصف. قال المرشح الديموقراطي للرئاسة جو بايدن: "إن الحقد يختبئ ولا يزول، وعندما ينفخ من في السلطة في الحقد الكامن تحت الصخور يخرج هذا الحقد"، إذ لم تُنسَ تصريحات ترامب وأفعاله العنصرية منذ توليه الرئاسة، وما زال يعيدها ويؤكّدها في تغريداته وخطاباته. وظهر منذ توليه الرئاسة ومركز القرار أنه ليس أكثر من نموذج أو نسخة عن الأنظمة التي يساندها على حساب شعوبها، وعن معارضتها المستنسخة عنها أيضًا.
وها هو المثال الحي على طريقة أدائه وتعاطيه مع المظاهرات التي خرجت في ولايات أميركية كثيرة تنديدًا بردة الفعل هذه، وطالب حكام الولايات باتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه المتظاهرين. ليس هذا فحسب، بل إن كم الأفواه طاول الصحافة والإعلام أيضًا، فلقد اعتدنا على التغريدات النارية، والتي تحمل طابع التهديد أحيانًا من الرئيس ترامب، ومنها تصريحاته المعادية لوسائل الإعلام، وجديدها ما غرّد به يوم الأحد الفائت: وسائل الإعلام العرجاء تبذل كل ما في وسعها لبث الكراهية والفوضى، وما دام الكل يفهم ما تفعله وأنها أخبار كاذبة، وأنهم أشرار حقًا لهم برنامج يثير الاشمئزاز، فبإمكاننا شق طريقنا إلى العظمة غير عابئين بهم... إنها ليست العظمة بمعناها النبيل، بل هي "جنون العظمة" عند شخص أرعن مثله.
تطالعنا وسائل الإعلام والميديا، التي صارت أعقد من أن تحاصر وتُضبط اليوم، بالممارسات
تعرّض مراسل المحطة إياها، شتيفان سايمونز، والمصور المرافق له، لقذيفة مطاطية مع تهديد بالاعتقال في حال استمرار بالتغطية. كذلك تعرض يوم الجمعة الفائت مراسل محطة سي. أن. أن، عمر خيمنز وطاقمه، إلى المنع وتم القبض عليهم على الهواء في أثناء تغطية الاحتجاج على مقتل جورج فلويد في مينيابولس، وأصيب مراسل "رويترز" ومستشارها الأمني برصاص مطاطي، وتعرّضت مراسلة قناة في ولاية كنتاكي للعنف أيضًا وصرخت على الهواء "أتعرّض للضرب بالنار". كل هذا ولم يمضِ أسبوع على الاحتجاجات، إنه مثال آخر على "الحرية التي تنير العالم" من منطق الحاكم الأبيض الأميركي، فكيف يمكن التصديق، بعد كل هذه البراهين، أن أميركا كانت صديقة أي شعب ينشد الحرية، ومن بينها شعبنا السوري؟
عندما ننقد الرئيس ترامب، وسقوطه الأخلاقي في تعامله مع المظاهرات ومع احتجاجات شعبية محقة، فهذا لا يعني أننا نجنح نحو الضفة الأخرى، كما يتوقع أن يردّ بعضهم. ليس صحيحًا أن هناك دولًا تعيش شعوبها في جنة نعيم، ففي أكثر المجتمعات رفاهًا وتحقيقًا لمبادئ العدالة والمساواة والحرية والتعبير وغيرها من الحقوق، وأكثرها حصولًا على حياة لائقة ومعيشة بالحد الأدنى من المنغصات، فإن هناك دائمًا أسبابًا للمعاناة وعدم رضى عن أداء حكوماتها، أو شعورًا
الديموقراطية، إلى اليوم، هي النظام الأكثر ضمانًا لحقوق الشعوب وإدارة حياتها، الديموقراطية بمفهومها النزيه من كل تحوير وممارسات عرجاء. لذلك على الشعوب أن تجد طريقها إليها وتصنع ديموقراطيتها الحقة، وتتعاون لحماية تلك القيمة.
مقالات أخرى
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024
05 أكتوبر 2024