ماذا قدّم الحليف الروسي للدولة السورية؟
ضربة إسرائيلية أخرى في الساحل السوري (في اللاذقية) فجر الخميس الماضي، في منطقة لا تبعد إلّا كيلومترات معدودة من قاعدة حميميم الروسية، بما تحتويه من أسلحة وطيران حربي ومُسيَّرات ومضادّات حربية وعتاد، نفّذتها إسرائيل على مستودع للذخيرة، كما أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان، بينما أعلن إعلام النظام أنّ الدفاعات الجوّية السورية تصدّت لأهداف معادية في أجواء اللاذقية، مشيراً إلى أنّ العدوان الإسرائيلي أسفر عن اندلاع حرائق عند مدخل المدينة الساحلية، في الوقت الذي يتحدّث فيه سكّان اللاذقية عن أنّ الانفجارات استمرّت فترةً طويلةً، وأنّ شظايا تطايرت مسافات بعيدة نسبياً عن موقع التفجير، ما يدلّل على وجود ذخائر تفجّرت على التوالي.
قبلها، كانت هناك ضربات جوية مجهولة المصدر استهدفت مستودعاً للذخيرة بالقرب من مدينة جبلة في ريف اللاذقية (3 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري)، وأخرى منذ ثلاث سنوات (28 ديسمبر/ كانون الأول2021)، حين استهدف قصف جوي إسرائيلي ساحة الحاويات في مرفأ اللاذقية، في ثاني استهداف من نوعه للمرفق الحيوي خلال شهر واحد. هذه أمثلة عن الضربات المتكرّرة الإسرائيلية منذ العام 2011، إذ شنّ الجيش الإسرائيلي مئات الضربات في هذا البلد استهدفت بشكل رئيس مواقعَ الجيش السوري ومقاتلين مدعومين من إيران، بما في ذلك مواقع حزب الله، ولم تُستثنَ منها المناطق التي تُعدُّ تحت الحماية الروسية.
ونادراً ما تُعلّق السلطات الإسرائيلية على ضربات بعينها في سورية، لكنّها أكّدت مراراً أنّها لن تسمح لإيران بتعزيز وجودها هناك، وصار الوجود الإيراني وتغلغله في سورية سبباً للاعتداء الإسرائيلي، وحصد أرواح مدنيين كثيرين، آخرها الضربة التي نفّذتها في حيّ المزَّة بدعوى وجود شخصية إيرانية في المبنى المُستهدَف. ليس هذا ما تريد المقالة طرحه، على الرغم من أهمّيته في اللحظة الراهنة وفي مستقبل سورية القريب، الذي لا يمكن فصله عمّا يجري في المنطقة، وتمدّد الحرب الإسرائيلية بدعوى القضاء على أذرع إيران في المنطقة، لكنّ السؤال الذي بات لا يبارح السوريين، خاصّة بعد مرور 14 عاماً على أزمتهم، والواقع الذي وصلت إليه بلادهم من تقسيم واحتلالات، وانهيار حياتهم من جميع النواحي، حتّى أصبح نحو 90% منهم تحت خطّ الفقر... هو: ما الذي قدّمته روسيا للشعب السوري، وهي الداعم الأكبر للنظام في سنواته السابقة؟
تتعرّض سورية للقصف المستمرّ والضربات الإسرائيلية، التي لم توفّر المرافق الحيوية، بينما روسيا تقف صامتةً، وكأنّها غير معنية أو غير موجودة
بعد مرور تسع سنوات على التدخّل الروسي في سورية، لم تكن النتائج السياسية والاقتصادية على قدر التوقعات، ولم ينل الشعب السوري، بمعزل عن النظام الحاكم، أيَّ دعمٍ في ظلّ تنامي أزمته الاقتصادية والمعيشية المتردّية بتسارع مخيف. الشعب السوري يعاني من شحّ المحروقات، وعدم القدرة على شرائها حين توافرها، فقد ارتفعت أسعارها ارتفاعاً لا يمكن معه الحصول عليها، في ظلّ تدنّي الدخل إلى ما دون العشرين دولاراً في الشهر، فماذا قدّمت روسيا بالنسبة إلى هذه الأزمة، وهي بلد النفط والغاز؟
الشعب السوري جائع حتّى رغيف الخبز، ومناطق زراعة القمح في سورية لم تعد تحت سيطرة النظام، وروسيا بلد القمح، بل وضعت حربها في أوكرانيا العالم كلّه، خاصّة البلدان المستهلكة للدقيق والخبز العنصر الغذائي الأكثر أهمّيةً لديها في ظلّ عدم قدرتها على الرفاهية الغذائية، في حالة هلع بسبب احتمالية عدم الحصول عليه، فكم رغيف خبز أو كيس دقيق قدّمت روسيا للشعب السوري، بل حتّى إنّها لم تستقبل لاجئين هاربين من الحرب التي كانت فيها طرفاً رئيساً في القصف والتهجير؟
في الواقع هي لم تقدّم شيئاً للشعب، بل ساهمت في تهجير عدد كبير منه، إنّما قدّمت للنظام، باعتباره بالنسبة إليها ضامنَ سياستها التي تديرها في المنطقة، ولقد شكّلت الحرب السورية ركيزةً حيويةً في إعادة روسيا قوّةً في منطقة الشرق الأوسط، فبلغ عدد مواقعها العسكرية في سورية 105 مواقع، حتّى منتصف عام 2023، منها 20 قاعدة عسكرية و85 نقطة عسكرية (لا تشمل الحواجز والثكنات والدوريات العسكرية) كما تقول التقارير، فكيف يمرّ هذا من دون مقابل؟ ... هذا ما يدور في أذهان الشعب، حتّى لو كانت الصحوة متأخّرة، أو ربّما هي مُجرَّد الجرأة على السؤال الذي كان مضمراً، إنّما بزوغ الأسئلة يمكن أن يفتح في الذهن آفاقاً أخرى للتفكير في الغد، والتفكير خارج السردية التي قُدِّمت إلى السوريين بأنّ روسيا جاءت لتدعم الحكومة السورية في القضاء على الإرهاب ومواجهة المؤامرة الكونية، كغيرها من الأطراف التي تدخّلت في الحرب السورية تحت هذه الذريعة، وكلّ طرف له "إرهابٌ" يحاربه.
شنّ الجيش الإسرائيلي مئات الضربات استهدفت بشكل رئيس مواقعَ الجيش السوري ومقاتلين مدعومين من إيران، ومواقع حزب الله، ولم تُستثنَ منها مناطق تُعدُّ تحت الحماية الروسية
لو كان للشعوب أن تختار مع من تتحالف، هل ستتحالف مع طرف خارجي لا تهمّه حياة الشعب ولا مصلحته ولا سيادة دولته؟ هل كانت ستتحالف مع أطراف أدارت ألعابها السياسية وصاغت اتفاقياتها ومعاهداتها على حساب الشعب من دون أيّ حدّ من الاكتراث بمصالحه؟ ... حتّى اتفاقياتها (روسيا) التي أبرمتها مع تركيا بدعوى تخفيض التصعيد في مناطق الشمال، لم ينجم عنها غير تعزيز الوجود التركي، في الوقت الذي ما زالت إلى اليوم ترسل طائراتها من قواعدها في الساحل لقصف بعض المناطق في ريفَي إدلب أو حلب.
تتعرّض سورية للقصف المستمرّ والضربات الإسرائيلية، التي لم توفّر المرافق الحيوية، بينما روسيا تقف صامتةً، وكأنّها غير معنية أو غير موجودة، بينما هي موجودة بكثافة، وما يدور في سورية ليس بمعزل عن صراعاتها مع أميركا والغرب. فأيّ حليف يمكن أن ينأى بنفسه عن أكثر قضايا ومشكلات شعب الدولة التي تتحالف معه أهمّيةً؟ ... ها هي إسرائيل، المدلّلة من قبل أميركا وحلفائها الغربيين، إسرائيل التي ما زالت تتلقّى الدعم منذ تأسيسها إلى اليوم، حتّى صارت في مصاف الدول الكُبرى من ناحية التقدّم والاقتصاد والتكنولوجيا، ومن بين 14 دولة هي الأولى في العالم من ناحية دخل الفرد ورفاهيته، ها هي إسرائيل تلقى الدعم كلّه في حروبها المدمّرة، التي ترقى معاركها إلى الإبادة الجماعية، فلا يجوع شعبها، ولا ينام المهجّرون من بلداتهم في الشوارع، ولا يعانون خطر الصواريخ التي تهدم أبنيةً بكاملها فوق رؤوس ساكنيها، ولا تنقص أطفالها الرعاية اللازمة، ولا تتعطّل العملية التعليمية.
الشعب السوري جائع حتّى رغيف الخبز، ومناطق زراعة القمح في سورية لم تعد تحت سيطرة النظام، وروسيا بلد القمح
هذا حديث لا يدعو إلى التحالف مع أميركا على حساب قضايا المنطقة، وأهمّها القضية الفلسطينية، لكنّه قرينة تأتي إلى البال أمام الواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب السوري، بعد تسعة أعوام من التحالف مع دولة استثمرته في ترسيخ نفوذها وحماية مصالحها ولعبها الدولي من دون أن تقدم شيئاً، إلّا مزيداً من الدعم للنظام من دون أن تساهم في خلق جوّ ملائم لعملية سياسية تُخرِج هذا الشعب من مآزقه الحياتية القاتلة، وتساعده في مسك زمام المبادرة في ما يتعلّق باستعادة وطنه وبنائه من جديد.
لكن كيف لهذه الشعوب أن تختار حلفاءها، وهي لم تستطع أن تختار حكوماتها وأنظمتها السياسية؟ ... لقد أدخلتها هذه الأنظمة في حالة استنقاع مديدة، جعلت منها شعوباً متهتّكة النسيج الاجتماعي، طفت باكراً مشكلاتها على السطح، وتمكّنت منها مع مرور عقد ونصف العقد من القتل والتشريد والحروب والتقسيم، شعوباً امتثالية لا تعرف غير الانصياع لما يُملى عليها، الانصياع لأيديولوجيات أو عقائد دينية، ما جعلها تحترق طيلة هذه السنوات. طرح الأسئلة ظاهرة مُستجِدَّة إيجابية، لكنّها لا تلغي السؤال: هل ستعرف هذه الشعوب اختيار حلفائها فيما لو مُنِحَت حرّية الاختيار؟