24 أكتوبر 2024
تونس: هل المشكلة النظام البرلماني؟
منذ وصوله إلى السلطة بشكل رسمي، وأدائه القسم أمام البرلمان، كشف الرئيس التونسي، قيس سعيد، عن حالة عدائية إزاء مجلس النواب والنظام البرلماني برمّته. بدايةً من خطاب 17 ديسمبر/كانون الأول 2019 في مدينة سيدي بوزيد، وصولا إلى خطابه أخيرا في الثكنة العسكرية في فندق الجديد، ظل الرئيس يكرّر الأفكار نفسها بصيغ مختلفة، ومؤدّاها أن كل المشكلات التي تعانيها البلاد مردّها إلى نظامها السياسي القائم على التمثيلية البرلمانية، بل وصل به الحال إلى القول إن المجلس النيابي هو أقصى تعبير عن البؤس السياسي.
ليس غريبا أن تشهد تونس، ومنذ نجاح ثورتها سنة 2011، حالة من التجاذب بين مراكز السلطة، فقد حصل هذا زمن الترويكا بين رئيس الحكومة حمادي الجبالي ورئيس الدولة السابق المنصف المرزوقي، ثم لاحقا حالة التوتر بين رئيس الدولة الراحل الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، والتي وصلت إلى حد القطيعة التامة بينهما. الجديد أن الرئيس الحالي يعلن الحرب على النظام السياسي الذي جاء به إلى السلطة، وهذا الأمر سيحدث شرخا حقيقيا في العلاقة بين مراكز القرار في الدولة، أعني بين الجهازين، التشريعي والتنفيذي، وهو أمر قد لا تتحمل البلاد تبعاته، ويجعلها في حالةٍ من الأداء الأعرج في مواجهة المشكلات المتراكمة.
أثارت مواقف قيس سعيد من النظام السياسي الذي هو جزءٌ منه نقاط استفهام تتعلق بخلفية هذه المواقف أولا، والغاية التي يريدها ثانيا، وآليات تحقيق ما يطالب به ثالثا. وهذه الأسئلة الملحّة هي التي توضح مدى عقلانية توجه رئيس الدولة، وقدرته على أداء مهامه، ضمن ما يحدّده له الدستور الذي أقسم على احترامه.
لم يُعرف عن الرئيس الحالي مناهضته نظام الحكم زمن الاستبداد، بل كان مؤيدا للخيار السياسي العام لحكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وربما كان التبرير حينها إيمانه بجهاز الدولة،
بوصفه أستاذا للقانون الدستوري، يحترم الهيكل السياسي للبلاد. أما أن يصبح مناوئا للنظام السياسي الجديد الذي تشكل بعد الثورة، ومنح الفرصة له ولغيره للوصول إلى السلطة، فإن هذا يجعله في موقفٍ يتساوق بشكل غريب مع توجهات بقايا النظام السابق ممن يحنّون إلى زمن الحكم المطلق، بعباءته الجمهورية وسلطته الرئاسية ذات الصلاحيات شبه الإلهية. والأغرب من هذا أن هؤلاء الذين يتساوق قيس سعيد معهم اليوم لم يمنحوه أصواتهم في أثناء الانتخابات التي فاز بها، ففي الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، كان شقٌّ منهم يؤيد عبير موسى (الحزب الدستوري الحر)، فيما يؤيد شقٌّ آخر عبد الكريم الزبيدي (وزير الدفاع السابق).
وما يثير الاستغراب أكثر أن السبسي، والذي كان محسوبا على الثورة المضادة، وعلى الرغم من فوزه حينها بالرئاسة، ونيل حزبه الأغلبية في مجلس نواب الشعب، أبدى احتراما للنظام السياسي الجديد، على الرغم من تجربته السياسية الكبيرة التي راكم جلها ضمن حكم الحزب الواحد والحكم المطلق لرئيس الدولة.
وبعيدا عن هذه المفارقة السياسية، يظل السؤال عما يريده قيس سعيد تحديدا من انتقاده النظام البرلماني، فلا أحد يدرك بالضبط ما يسعى إليه، وهل يتعلق الأمر بما تردد في بعض تصريحاته عن إيمانه بنظام الديمقراطية المباشرة، وإدارة الدولة عبر مجالس الحكم المحلي بما يشبه نظام الكومونات، أم أن الأمر يتعلق بالتوجه إلى نظام سياسي رئاسي، يتم فيه اختزال كل السلطات بيد رئيس الجمهورية، والحد من تأثير البرلمان، وجعله أشبه بمجلس استشاري، أم هو خيار ثالث يجمع بن السلطة المطلقة للقائد الملهم ومجالس شعبية شكلية على طريقة معمر القذافي. لا أحد يدري بالتحديد طبيعة النظام السياسي الجديد الذي يبشّر به قيس سعيد، في ظل تضارب التصريحات وتناقض المواقف وتداخل التصورات النظرية بالممارسة السياسية التكتيكية.
بقيت الإشارة إلى الأسلوب الذي سيتبنّاه الرئيس الحالي لبلوغ هدفه، خصوصا وقد أعلن احترامه
الشرعية القائمة، وهو ما يعني واقعا استحالة أي تغيير للبنية الدستورية أو القانونية للنظام السياسي، ذلك أن كل استفتاء لتعديلات دستورية كبرى تقتضي حتما العودة إلى مجلس النواب، للحصول على موافقته وبأغلبية الثلثين، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق من خلال حساب توازنات القوى داخل المجلس. أما إن اختار الرئيس الدعوة إلى الخروج على الشرعية، وتحريض الشارع على النظام، فهذه ستكون وصفة للفوضى، وعملا غير مسؤول، لا يُعتقد أن رئيس الدولة يمكن أن ينزاح إليه.
حالة التعثر التي يعانيها النظام السياسي في تونس لا تبرّر بأي منطق محاولة الانقلاب عليه. وهناك فرق بين الثورة التي جرت نهاية 2010 ضد نظام استبدادي منغلق، يمنع التعدّدية الحزبية، ويحاكم المخالفين ويقمع الحريات، والرغبة في تغيير نظام سياسي يمنح الفرصة للتداول على السلطة من دون بديل واضح، بما قد يشكل خطرا يمسّ هيكل الدولة ذاتها، وليس مجرد تغيير البنية الدستورية للحكم.
أثارت مواقف قيس سعيد من النظام السياسي الذي هو جزءٌ منه نقاط استفهام تتعلق بخلفية هذه المواقف أولا، والغاية التي يريدها ثانيا، وآليات تحقيق ما يطالب به ثالثا. وهذه الأسئلة الملحّة هي التي توضح مدى عقلانية توجه رئيس الدولة، وقدرته على أداء مهامه، ضمن ما يحدّده له الدستور الذي أقسم على احترامه.
لم يُعرف عن الرئيس الحالي مناهضته نظام الحكم زمن الاستبداد، بل كان مؤيدا للخيار السياسي العام لحكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وربما كان التبرير حينها إيمانه بجهاز الدولة،
وما يثير الاستغراب أكثر أن السبسي، والذي كان محسوبا على الثورة المضادة، وعلى الرغم من فوزه حينها بالرئاسة، ونيل حزبه الأغلبية في مجلس نواب الشعب، أبدى احتراما للنظام السياسي الجديد، على الرغم من تجربته السياسية الكبيرة التي راكم جلها ضمن حكم الحزب الواحد والحكم المطلق لرئيس الدولة.
وبعيدا عن هذه المفارقة السياسية، يظل السؤال عما يريده قيس سعيد تحديدا من انتقاده النظام البرلماني، فلا أحد يدرك بالضبط ما يسعى إليه، وهل يتعلق الأمر بما تردد في بعض تصريحاته عن إيمانه بنظام الديمقراطية المباشرة، وإدارة الدولة عبر مجالس الحكم المحلي بما يشبه نظام الكومونات، أم أن الأمر يتعلق بالتوجه إلى نظام سياسي رئاسي، يتم فيه اختزال كل السلطات بيد رئيس الجمهورية، والحد من تأثير البرلمان، وجعله أشبه بمجلس استشاري، أم هو خيار ثالث يجمع بن السلطة المطلقة للقائد الملهم ومجالس شعبية شكلية على طريقة معمر القذافي. لا أحد يدري بالتحديد طبيعة النظام السياسي الجديد الذي يبشّر به قيس سعيد، في ظل تضارب التصريحات وتناقض المواقف وتداخل التصورات النظرية بالممارسة السياسية التكتيكية.
بقيت الإشارة إلى الأسلوب الذي سيتبنّاه الرئيس الحالي لبلوغ هدفه، خصوصا وقد أعلن احترامه
حالة التعثر التي يعانيها النظام السياسي في تونس لا تبرّر بأي منطق محاولة الانقلاب عليه. وهناك فرق بين الثورة التي جرت نهاية 2010 ضد نظام استبدادي منغلق، يمنع التعدّدية الحزبية، ويحاكم المخالفين ويقمع الحريات، والرغبة في تغيير نظام سياسي يمنح الفرصة للتداول على السلطة من دون بديل واضح، بما قد يشكل خطرا يمسّ هيكل الدولة ذاتها، وليس مجرد تغيير البنية الدستورية للحكم.