أفريقيا... الانتخابات وأمل التغيير
بدأ الموسم الانتخابي 2024 في أفريقيا (19 انتخابات رئاسية وتشريعية) في يناير/ كانون الثاني الماضي، بطريقة غير واعدة ومثيرة للقلق على أقلّ تقدير. وبعد إعادة انتخاب رئيس جزر القمر، غزالي عثماني، لولاية خامسة، في ظلّ تلاعب بالدستور والنتائج المشكوك فيها، ورغم اندلاع مظاهرات عنيفة في العاصمة موروني، وسقوط قتلى وجرحى، أصبح بقاء الرئيس غزالي واقعاً. لم تخرج غالبية الانتخابات التي شهدتها القارّة عن هذا السياق الذي شهدته جزر القمر، فالاقتراع العام، بعيداً من أن يكون تعبيراً عن الإرادة الشعبية، أصبح الوسيلة التي يستمرّ بها النظام السياسي السلطوي، ومن ثم تصبح المشاركة الشعبية مُجرَّد واجهة للتزييف الانتخابي، وهو ما يُفسّر حالات العزوف الواسعة التي شهدتها الانتخابات في دول مختلفة.
يأخذ التزوير، وهو الظلّ المرتبط بأيّ شكل من أشكال الاقتراع، بُعداً جديداً هنا، فبمُجرَّد أن تصبح السلطة مُطلقة، فإنّها تكفّ عن أن تكون قابلةً للتداول أو مدخلاً للتغيير السلمي. إنّ تطبيق الديمقراطية الشكلية في ما يخص الفئات الحاكمة الأفريقية لا يمكن أن تستمرّ إلّا من خلال التزوير المُتعمَّد للانتخابات، والتحكّم في قوانينها، وتحديد قائمة المُرشّحين بما يناسب الحاكم المُستبدّ، وهو ما يمكن ملاحظته في نماذج مختلفة مثل جزر القمر ورواندا ومصر والجزائر أو حتّى تونس، حيث يمنع المُرشّحون لإفساح المجال للرئيس الحالي ليخلف نفسه.
المنافسون في نظر الدكتاتور الأفريقي ليسوا أهلاً لخلافته، كما لا يرقى أيّ منهم إلى مستوى البلد الذي يُجسّد الديكتاتورُ وحدته الوطنية
إنّ الاستيلاء على السلطة من طريق انقلاب عسكري أو دستوري، يتبعه غالباً التأهيل من خلال صناديق الاقتراع، ولكن بقدر ما يسمح بتركيز السلطة في يد الحاكم المطلق. من ثمّ، نفهم أنّ المنافسة تصبح ممكنة فقط إلى الحدّ الذي تسمح فيه للحاكم بأن يكون مُرشّحاً مميّزاً، فهو يقترحها ويضع قوانينها، بل يُحدّد من يشارك فيها. إنّ المنافسين في نظر الدكتاتور الأفريقي ليسوا أهلاً لخلافته، كما لا يرقى أيّ منهم إلى مستوى البلد الذي يُجسّد الديكتاتورُ وحدته الوطنية وسلامة أراضيه. وعلى هذا، يكون انتخاب الحاكم المُطلق بالضرورة "جماهيرياً" و"إجماعياً"، حتّى إن كانت نسبة المشاركة الشعبية مُتدنّيةً، ويصبح تزوير الانتخابات ديمقراطياً. بمعنى أنّ المُستبدِّين يقبلون الآن الانتخابات التي تحظى بقبول الرأي العام الدولي. ومن هنا جاءت خصوصية "الديمقراطية الأفريقية"، التي ارتبطت بهذه الأنظمة الجديدة، إذ يُتصوَّر وجود الانتخابات الشكلية على أنّها الديمقراطية.
تفرّد الديكتاتوريات الأفريقية الجديدة، التي أقرّها التصويت، لا يرجع إلى الاقتراع العام، بقدر ما يرجع إلى أسلوب تنفيذه. ففي النموذج الانتخابي لدولة الكونغو جرت عملية انتخابية (مارس/ آذار 2002) هدفها إضفاء الشرعية السياسية على استيلاء ساسو نغيسو على السلطة، وبعد إجراء استفتاء على دستور مصمّم خصيصاً لهذا الأخير، لم تكن الانتخابات ممكنةً إلّا بعد الإدانة غيابياً لمنافسَيه الرئيسَين، الرئيس السابق باسكال ليسوبا، وعمدة برازافيل برنارد كوليلاس، وهو ما سنراه يتكرّر في الحالة المصرية ضدّ المُرشَّح أحمد الطنطاوي، منافس الرئيس عبد الفتّاح السيسي، وفي ما يجري حالياً في تونس ضدّ المُرشَّح العياشي الزمّال، وباقي المُرشَّحين، الذين استبعدوا من المشاركة رغم قرار المحكمة الإدارية بوجوب إعادتهم إلى السباق. كيف يمكننا أنّ نُفسّر النكسات التي تعانيها أفريقيا في ما يتعلّق بالديمقراطية والتنمية؟
إنّ حركات التمرّد والانقلابات وعدم الاستقرار ترجع جذورها إلى بطء التنمية، وسوء الإدارة، وطبيعة التحوّلات الديموغرافية في القارّة. ويأتي هذا كلّه في وقت يعاني فيه الاتحاد الأفريقي حالة ركود. لقد خطا الاتحاد خطوة إلى الوراء منذ اتفاقية لومي عام 2000 والتزامه بإدانة الانقلابات. لذلك اختار تفسير انقلاب عام 2017 في زيمبابوي بصورة مختلفة لتجنّب تعليق نظام رئيس الاتحاد الأفريقي إيمرسون منانغاغوا. ثمّ كرّر هذا الخطأ بعد انقلاب تشاد عام 2021. وفي عام 2019، في السودان، وافق الاتحاد الأفريقي على مشاركة مدبّري الانقلاب في العملية اللاحقة لإعادة السلطة إلى المدنيين.
يستطيع المواطنون التحكّم في ديمقراطيتهم ومساءلة حكّامهم، وإدراك الناس لقوتهم في الدفاع عن حقوقهم سيوقف الحكّام عن تجاوز القانون
في ظاهر الأمر، لقد فشلت الديمقراطية في أفريقيا، وفي واقع الأمر، ما زال الأفارقة يؤمنون بوعد الديمقراطية، ولكنّهم يريدون أن تكون الانتخابات حرّة ونزيهة. وينبغي للاتحاد الأفريقي والمجموعات الاقتصادية الإقليمية، أن يتفقوا على هذا الأمر. وإذا أصرّ الأفارقة على ألّا ينتقد الغربيون الانتهاكات في القارّة، فيتعين عليهم أن يدينوها بأنفسهم. وبدلاً من ذلك، يغضُّ الاتحاد الأفريقي (والعديد من اللجان الاقتصادية الإقليمية التابعة له) الطرفَ عندما يطيل المسؤولون الحاليون بقاءهم في السلطة من خلال التلاعب بالدستور وسرقة الانتخابات. وفي المقابل، بدلاً من انتظار الانتخابات لتصحيح عيوب الحكومات، يتعيّن على المواطنين مساءلة حكوماتهم. وتثبت الأحداث أنّ ذلك ممكن. وفي السنغال، أجبرت المظاهرات الحاشدة، التي قادها المجتمع المدني وأحزاب المعارضة والنقابات والأوساط الأكاديمية، ماكي سال على التنازل عن ولاية ثالثة. كما أدّت احتجاجات أخرى إلى إعلان المحكمة الدستورية أن تصرّفات الرئيس غير دستورية، مما سمح بإجراء انتخابات ناجحة وانتقال سلمي للسلطة. وتُظهِر هذه الأحداث قدرة المواطنين على مساءلة حكوماتهم، وتقدّم ثلاثة دروس للرؤساء وصنّاع السياسات وعامّة الناس، في مواجهة السخط المتزايد على الديمقراطية والتخلّف.
أولاً، المواطنون وحدهم يستطيعون التحكّم في ديمقراطيتهم وضمان مساءلة حكّامهم، وإذا أدرك الناس قوتهم في الدفاع عن حقوقهم فسيتوقّف الحكام عن تجاوز القانون. ثانياً، لا ينبغي للناس أن ينتظروا الانتخابات أو سقوط النظام للمطالبة بتغيير حقيقي في السياسات العامة، إنّ أفريقيا تحتاج إلى مواطنين منظّمين ومتّحدين ومستعدّين للدفاع عن ديمقراطيتهم. ثالثاً، يتعيّن على الزعماء الأفارقة أن يفهموا أنّ السلطة والسيادة المطلقة تقع في أيدي الشعوب، لقد ولّت أيّام اعتبار الناخبين مُجرَّد "كومبارسات" في المشهد، ومع وجود عدد كبير من السكّان الشباب الساخطين والمُعبّئين بفضل الشبكات الاجتماعية، أصبح من الأسهل الآن المطالبة بالمساءلة من خلال المظاهرات.
وإذا لم تتحسن الظروف المعيشية، واستمرت إساءة استخدام السلطة، فقد تتكرّر الاحتجاجات والثورات في أفريقيا. إنّ حقبة جديدة آخذة في الظهور، فيمكن لرسالة بسيطة على شبكات التواصل الاجتماعي أن تجمع آلاف المواطنين الذين سيجعلون أصواتهم مسموعة.