24 أكتوبر 2024
إعادة تشكل المشهد السياسي في تونس
باحت صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية التونسية بأسرارها، وكشفت عن صعود المرشحين قيس سعيد ونبيل القروي، وكان لهذه النتائج صداها المزلزل، على الرغم من أن المتابعين للشأن الانتخابي التونسي يدركون أن الفائزيْن هما من الأسماء المتداولة، باعتبارها الأبرز لنيل ثقة الناخبين في الدور الأول للانتخابات.
بعيدا عن ثنائيات الفوز والهزيمة، يكشف ما جرى عن عدة رسائل، وجهها الشارع التونسي إلى النخبة السياسية، وكل الذين استأثروا بصدارة المشهد السياسي بعد ثورة 2011، ذلك أن صعود هذه الشخصيات التي لا تستند إلى قوى حزبية، ولا تملك ماضيا نضاليا، ولم تمارس العمل السياسي بشكل مكثف، ولم تشارك في الحكم، يدعو إلى التأمل في طبيعة التوجهات السياسية للشارع التونسي في المرحلة الحالية.
في ظل وجود ثلاثة رؤساء سابقين للحكومة (حمادي الجبالي، مهدي جمعة، يوسف الشاهد) ورئيس سابق للجمهورية ونائب رئيس مجلس النواب ووزراء، الواضح أن التصويت كان عقابيا بامتياز، وأن هناك ميلا جارفا نحو القطع مع الطبقة السياسية في تونس التي أتعبت المواطن بأدائها الحكومي الفاشل من جهة، وباستعادة صراعاتها القديمة على أسس أيديولوجية، أو حتى خدمة لأجندات خارجية، وتواصلا مع أحلاف إقليمية ضخّت المال السياسي لبعض المرشحين الذين أعلنوا استعدادهم للتلاعب بالمسار الديمقراطي، وتخندقوا ضمن حساباتٍ لا علاقة للمواطن بها (مواقف المرشحين عبد الكريم الزبيدي وعبير موسى ومهدي جمعة)، في مقابل سعي فئة أخرى من المرشحين إلى خدمة ميول سلطوية أو أجندات حزبية ضيقة (يوسف الشاهد، عبد الفتاح مورو)، أو الذين استعادوا خطابا أيديولوجيا متكلّسا لم يعد مقنعا (مرشحا اليسار حمّة الهمامي ومنجي الرحوي).
إذا كان من الممكن فهم طبيعة الشريحة الاجتماعية التي منحت أصواتها للمرشح نبيل القروي، وهي في أغلبها من المواطنين الأقل تعليما، وممن يعانون الحرمان الاجتماعي والمتأثرين بالدعاية التي رافقت "العمل الخيري" الذي ركّز عليه هذا المرشح في الأرياف، وفي الأحياء الشعبية، بما منحه صورة "فاعل الخير"، وما ترتبط به في المخيال الشعبي، على الرغم من أنه متهم بالتورّط في قضايا فساد مالي، أودع السجن بسببها، فإن الفائز الآخر قيس سعيد قد شكّل بالفعل ظاهرةً تضافرت عوامل كثيرة ساعدت على تضخمها ككرة الثلج، فهذا المرشح الذي لا يُخفي خياراته المجتمعية المحافظة، على الرغم من خلفيته القانونية، من خلال رفضه قانون المساواة في
الميراث، ودفاعه عن عقوبة الإعدام، ما جعله يستفيد من خزّان انتخابي كان يميل عادة للتصويت الى حركة النهضة التي بقدر محاولتها التلبّس بالخطاب الحداثي، والتجرّد من خلفيتها الدينية، بقدر ما خسرت هذا الجمهور الذي انحاز، في الجملة، إلى المرشح قيس سعيد، بالإضافة إلى المرشح الآخر (سيف مخلوف). من جهة ثانية، فإن ما ارتبط في أذهان الجمهور العام من فساد ينخر الطبقة السياسية جعل الناخبين يبحثون عن شخصيةٍ تبدو أكثر نظافة واستقلالية، فقد خاض قيس سعيد حملته الانتخابية من دون بهرج انتخابي، ومن دون إنفاق للمال، واكتفى بالتنقل والاختلاط بجمهور الشباب في المقاهي والمنتديات، رافضا الاستفادة من المنحة الرئاسية، مكتفيا بالقليل، نوع من الزهد في المال العام الذي لم يعهده الناس، جعله يبدو بصورة النقيض الموضوعي للمرشحين الذين ينفقون بغير حساب، وينظّمون مهرجانات انتخابية على الطريقة الهوليودية، بما فيها من إبهار. وفي الوقت نفسه، بما تثيره من شبهاتٍ في نفوس الناخبين حول مصدر المال.
كشفت هذه النتائج عن مدى حيوية الديمقراطية التونسية من جهة، واستعداد الناس لتجديد الوجوه التي يمنحونها ثقتهم. ومن ناحية أخرى، فضحت مدى العجز الذي تعانيه الأحزاب السياسية التونسية، بكل توجهاتها الأيديولوجية، والأحزاب الممولة خارجيا. وعلى الرغم من محاولة هؤلاء تصدير الأزمة إلى الشارع وتوصيفه بالجهل، فإن الفشل تتحمّله الأحزاب، بما تصدّره لأتباعها من أوهام، وما سببته من نفور الناس عن النشاط الحزبي، دفعهم إلى البحث عن وجوه وبدائل مختلفة غير مأمونة العواقب. وفي الأصل، ترتبط فكرة الحزب السياسي بأنه الحاضنة التي تصنع الناشطين، وتسمح بتجديد الدماء داخل الطبقة السياسية، وهذا ما عجزت الأحزاب عن القيام به.
سيتم إلقاء اللوم على الشعب كالعادة، متناسين أن الشعب الذي ثار يوما خارج الأطر الحزبية على الاستبداد ومنظومته السياسية لا يهمّه اليوم أن يتجاهل جميع الأحزاب، وأن يخلط جميع الأوراق، بما يعيد تشكيل المشهد السياسي من جديد.
في ظل وجود ثلاثة رؤساء سابقين للحكومة (حمادي الجبالي، مهدي جمعة، يوسف الشاهد) ورئيس سابق للجمهورية ونائب رئيس مجلس النواب ووزراء، الواضح أن التصويت كان عقابيا بامتياز، وأن هناك ميلا جارفا نحو القطع مع الطبقة السياسية في تونس التي أتعبت المواطن بأدائها الحكومي الفاشل من جهة، وباستعادة صراعاتها القديمة على أسس أيديولوجية، أو حتى خدمة لأجندات خارجية، وتواصلا مع أحلاف إقليمية ضخّت المال السياسي لبعض المرشحين الذين أعلنوا استعدادهم للتلاعب بالمسار الديمقراطي، وتخندقوا ضمن حساباتٍ لا علاقة للمواطن بها (مواقف المرشحين عبد الكريم الزبيدي وعبير موسى ومهدي جمعة)، في مقابل سعي فئة أخرى من المرشحين إلى خدمة ميول سلطوية أو أجندات حزبية ضيقة (يوسف الشاهد، عبد الفتاح مورو)، أو الذين استعادوا خطابا أيديولوجيا متكلّسا لم يعد مقنعا (مرشحا اليسار حمّة الهمامي ومنجي الرحوي).
إذا كان من الممكن فهم طبيعة الشريحة الاجتماعية التي منحت أصواتها للمرشح نبيل القروي، وهي في أغلبها من المواطنين الأقل تعليما، وممن يعانون الحرمان الاجتماعي والمتأثرين بالدعاية التي رافقت "العمل الخيري" الذي ركّز عليه هذا المرشح في الأرياف، وفي الأحياء الشعبية، بما منحه صورة "فاعل الخير"، وما ترتبط به في المخيال الشعبي، على الرغم من أنه متهم بالتورّط في قضايا فساد مالي، أودع السجن بسببها، فإن الفائز الآخر قيس سعيد قد شكّل بالفعل ظاهرةً تضافرت عوامل كثيرة ساعدت على تضخمها ككرة الثلج، فهذا المرشح الذي لا يُخفي خياراته المجتمعية المحافظة، على الرغم من خلفيته القانونية، من خلال رفضه قانون المساواة في
كشفت هذه النتائج عن مدى حيوية الديمقراطية التونسية من جهة، واستعداد الناس لتجديد الوجوه التي يمنحونها ثقتهم. ومن ناحية أخرى، فضحت مدى العجز الذي تعانيه الأحزاب السياسية التونسية، بكل توجهاتها الأيديولوجية، والأحزاب الممولة خارجيا. وعلى الرغم من محاولة هؤلاء تصدير الأزمة إلى الشارع وتوصيفه بالجهل، فإن الفشل تتحمّله الأحزاب، بما تصدّره لأتباعها من أوهام، وما سببته من نفور الناس عن النشاط الحزبي، دفعهم إلى البحث عن وجوه وبدائل مختلفة غير مأمونة العواقب. وفي الأصل، ترتبط فكرة الحزب السياسي بأنه الحاضنة التي تصنع الناشطين، وتسمح بتجديد الدماء داخل الطبقة السياسية، وهذا ما عجزت الأحزاب عن القيام به.
سيتم إلقاء اللوم على الشعب كالعادة، متناسين أن الشعب الذي ثار يوما خارج الأطر الحزبية على الاستبداد ومنظومته السياسية لا يهمّه اليوم أن يتجاهل جميع الأحزاب، وأن يخلط جميع الأوراق، بما يعيد تشكيل المشهد السياسي من جديد.