13 نوفمبر 2024
محمود درويش زهر لوز فلسطين
بمرور الذكرى الحادية عشرة على وفاته، ما زلت أضحك من سذاجتي، حين اعتقدت أنه ابن عمي، وبأني قد تباهيت بذلك أمام تلميذات الصف في المدرسة، حتى اكتشفت أنه شاعر كبير، لا يمت بصلة قرابة لي، ولكن ابن عمي اسمه محمود درويش على كل حال، ولأن غربة الفلسطيني باعدت بينه وبين قرابته، فأنا لم أره طوال حياتي، ولذلك اعتقدت أنه قد صار شاعراَ في الغربة. ولأن محمود درويش قد أسرني منذ الصغر، وعشت مع أشعاره حتى رحل، ولم يشخ ولم يتغير، بل ظل حاميا وسامته التي ألهبت قلوب عشاقه، ومدافعا بعنفوان عن حياةٍ أحبها، مستقبلا كل وجع بضحكة، فظل فارس أحلام النساء اللواتي لم يصدقن التاريخ الذي يخبرهن بعمره، ولكنهن مضين مسحوراتٍ بجمال شعره، وهذه ميزة مشتركة مع صاحب الزهر، وزهره الذي يتفتح أياما، ويملأ بجماله ورونقه على الأغصان الحياة بهجةً ثم يختفي، لتظهر الحبات التي تتحول إلى لوز بقشور قاسية، يستفاد منها أعواما، وتُخزّن، لأن الإنسان له فيها مآرب كثيرة.
عادة ما يتفتح زهر اللوز في أواخر فصل الشّتاء، وفصل الشّتاء موت وحياة في الوقت نفسه، واللوزيات التي تشتهر بها جبال فلسطين تزهر في الثلث الأخير من الشّتاء، ويعقد ثمرها في وقت قصير جدّاً، وكأن الجمال لا يجد وقتا لكي يتباهى بجماله. وربما كان ذلك إشارة بليغة من الشاعر إلى أطفال فلسطين الذين يكبرون قبل الأوان، فهم ينتقلون بسرعةٍ من مرحلة الطفولة المبكرّة إلى عنفوان الشباب، لتقصفهم مناجل الموت، حين يسقطون شهداء على أرض الوطن ومن أجله. ينقلنا زهر اللوز بصورة بصرية سريعة إلى ثنائية الحياة والموت، من دون فاصل بينهما، إلا الدهشة وصدمة الحدث.
ولأن زهر اللوز هو مزج بين الحياة والموت، فصاحبه هو أبلغ الشعراء في المزج بين الوطن والمحبوبة، وإن كان أقدرهم على الربط بين الحياة والموت، فهو الأقدر على فلسفة الأشياء من دون أن يتراقص بالأبجدية في عبث، بل كان شعره لغة جديدة يذهب إليها من أضاعوا الأحبة والأوطان، فبدا مثل كهفٍ باذخٍ، وعلى بابه يقف "علي بابا" مستجديا ومتوقعاً كنوزا فقط ينتظر كلمة السر ليفتح، وكانت كلمة سرّه: فلسطين الحب...
وكزهر اللوز كان محمود درويش. رحل الجسد وبقيت الكلمة، بعد أن أنار الثقافة العربية الحديثة، تاركا إرثا من زهر لوز لم يتفتح. ولا يزال يغري البحاثة الذين ينبشون عن اكتشاف جديد لشعره، وكأن كل اقترابٍ من زهرة اللوز لغزٌ جديدٌ يحل على الرغم من أن الجميع يرونه من بعيد زهرةً على غصنٍ ليس إلا. وهذا ما يفعله قرّاء ونقاد كبار وذوو حساسية جمالية مرهفة، تعيد قراءة هذا العالم الزاخر الذي تركه درويش. ولا يستطيع دارس أو ناقد يتحدّث عن الشعر إلا ودرويش حاضر فيه، بوصفه شاعرا مؤثّرا، وذا بصمةٍ أدبيةٍ لا تمّحى رغما عن غيابه. ولا يزال شعر درويش يحتاج قراءات نقدية، ويحتاج إلى بحث عن أسرار قوته وتفرّده. الوقوف على القيمة الفنية لشعر درويش يشبه قصور الشاعر عن وصف زهر اللوز، حيث استغاث بموسوعة الأزهار ولم تسعفه.
وكزهر اللوز، كانت تبدو الأمسيات الشعرية لدرويش، فكل لقاء مع جمهوره هو الشجرة نفسها التي ترسل بزهر لوزها مع لقطة وزاوية جديدتين، حتى تكاد تشك بأنها الشجرة العجوز نفسها، ولكن درويش ظل الشجرة الفتية، حتى خوطب بالفتى في كل مرة ينبهر النقاد بوسامته ورشاقة بنيته وكلمته. لذلك قليلا ما طلب منه الجمهور أن يلقي على مسامعه قصائد قديمة، فكل لقاءٍ يزهر زهر اللوز بقصائد جديدة، تؤكد جماهيريته المتجدّدة، ويرسم بالكلمات رؤية عميقة تصل إلى السامع حبا ووطنية، وتختزن في ذاكرته، بحيث لا تموت كلماته فتغنى وتفتتح بها الصباحات في البيوت المغتربة عن حدود أوطانها. ولذلك، وبعد سنوات الغياب نهتف بالفتى سلام عليك أفتقدك جدا/ وعلي السلام فيما أفتقد.
عادة ما يتفتح زهر اللوز في أواخر فصل الشّتاء، وفصل الشّتاء موت وحياة في الوقت نفسه، واللوزيات التي تشتهر بها جبال فلسطين تزهر في الثلث الأخير من الشّتاء، ويعقد ثمرها في وقت قصير جدّاً، وكأن الجمال لا يجد وقتا لكي يتباهى بجماله. وربما كان ذلك إشارة بليغة من الشاعر إلى أطفال فلسطين الذين يكبرون قبل الأوان، فهم ينتقلون بسرعةٍ من مرحلة الطفولة المبكرّة إلى عنفوان الشباب، لتقصفهم مناجل الموت، حين يسقطون شهداء على أرض الوطن ومن أجله. ينقلنا زهر اللوز بصورة بصرية سريعة إلى ثنائية الحياة والموت، من دون فاصل بينهما، إلا الدهشة وصدمة الحدث.
ولأن زهر اللوز هو مزج بين الحياة والموت، فصاحبه هو أبلغ الشعراء في المزج بين الوطن والمحبوبة، وإن كان أقدرهم على الربط بين الحياة والموت، فهو الأقدر على فلسفة الأشياء من دون أن يتراقص بالأبجدية في عبث، بل كان شعره لغة جديدة يذهب إليها من أضاعوا الأحبة والأوطان، فبدا مثل كهفٍ باذخٍ، وعلى بابه يقف "علي بابا" مستجديا ومتوقعاً كنوزا فقط ينتظر كلمة السر ليفتح، وكانت كلمة سرّه: فلسطين الحب...
وكزهر اللوز كان محمود درويش. رحل الجسد وبقيت الكلمة، بعد أن أنار الثقافة العربية الحديثة، تاركا إرثا من زهر لوز لم يتفتح. ولا يزال يغري البحاثة الذين ينبشون عن اكتشاف جديد لشعره، وكأن كل اقترابٍ من زهرة اللوز لغزٌ جديدٌ يحل على الرغم من أن الجميع يرونه من بعيد زهرةً على غصنٍ ليس إلا. وهذا ما يفعله قرّاء ونقاد كبار وذوو حساسية جمالية مرهفة، تعيد قراءة هذا العالم الزاخر الذي تركه درويش. ولا يستطيع دارس أو ناقد يتحدّث عن الشعر إلا ودرويش حاضر فيه، بوصفه شاعرا مؤثّرا، وذا بصمةٍ أدبيةٍ لا تمّحى رغما عن غيابه. ولا يزال شعر درويش يحتاج قراءات نقدية، ويحتاج إلى بحث عن أسرار قوته وتفرّده. الوقوف على القيمة الفنية لشعر درويش يشبه قصور الشاعر عن وصف زهر اللوز، حيث استغاث بموسوعة الأزهار ولم تسعفه.
وكزهر اللوز، كانت تبدو الأمسيات الشعرية لدرويش، فكل لقاء مع جمهوره هو الشجرة نفسها التي ترسل بزهر لوزها مع لقطة وزاوية جديدتين، حتى تكاد تشك بأنها الشجرة العجوز نفسها، ولكن درويش ظل الشجرة الفتية، حتى خوطب بالفتى في كل مرة ينبهر النقاد بوسامته ورشاقة بنيته وكلمته. لذلك قليلا ما طلب منه الجمهور أن يلقي على مسامعه قصائد قديمة، فكل لقاءٍ يزهر زهر اللوز بقصائد جديدة، تؤكد جماهيريته المتجدّدة، ويرسم بالكلمات رؤية عميقة تصل إلى السامع حبا ووطنية، وتختزن في ذاكرته، بحيث لا تموت كلماته فتغنى وتفتتح بها الصباحات في البيوت المغتربة عن حدود أوطانها. ولذلك، وبعد سنوات الغياب نهتف بالفتى سلام عليك أفتقدك جدا/ وعلي السلام فيما أفتقد.