تونس.. نظام معتل للصحة العمومية

17 مارس 2019

اختلال فادح في الخريطة الصحية التونسية (Getty)

+ الخط -
كشفت وفاة اثني عشر رضيعا في أهم مركز عمومي لطب الولادة في تونس العاصمة عن عمق انهيار منظومة الصحة العمومية في بلدٍ يفاخر باستقطابه سنويا مئات آلاف السياح الذين يزورون البلاد، للاستفادة من الخدمات الصحية المقدمة بجودة عالية. لم يكن ذلك وليد مصادفة، بل استطاعت تونس منذ استقلالها أن تراهن على الصحة العمومية، فكانت من أولى الدول العربية التي بعيد استقلالها شيدت كليات طب وصيدلية ضمن مواصفات متقدّمة. بعد أقل من عقد، تخرج آلاف الأطباء والصيادلة، وغدت سمعتهم ممتازة على الصعيد الدولي، ما جعل الطلب عليهم ضمن هجرة الكفاءات عاليا إلى دول الخليج وأوروبا مثلا.
منذ ثمانينيات القرن الفارط، شكلت تلك المكاسب، وتحديدا الكفاءات الطبية العالية، رأسمالا استثمرته سياسات الخصخصة التي انطلقت بسرعة قصوى، فشيدت عشرات المصحات الفاخرة، وذات الجودة العالية، لتقديم الخدمات للتونسيين والأجانب. ويشتغل هذا القطاع بخبرات طبية، وشبه طبية، تونسية بلا استثناء، وفق القانون المنظم لها الذي يحصر إطارها البشري في التونسيين. وتزامن ذلك مع سياسات الانفتاح الاقتصادي الذي شهد خصخصة مكثفةً للقطاع الصحي.
غادر بعض من خيرة الأطباء القطاع العام، والتحقوا بالقطاع الخاص، وهم الذين تكونوا في المستشفيات العمومية، واكتسبوا خبرتهم في هذا القطاع تحديدا. ومنحت امتيازات عديدة لمن ظلّ من الأطباء في القطاع العام، إذ في وسع هؤلاء أن يتمتعوا بأنشطةٍ تكميليةٍ خارج 
المستشفيات العمومية (عيادات خاصة، مصحات خاصة..). أوجد هذا أنظمة صحية متباينة تسير بسرعةٍ متفاوتةٍ، ففي وقتٍ تتقهقر فيه المؤسسات العمومية، تشيد سنويا عشرات المصحات الخاصة والمجمعات الطبية. تدريجيا، كادت تصبح هذه المؤسسات العمومية مجالا لطب الفقراء، مع خدمات صحية فاقدة الجودة. الميزانيات المتضائلة سنويا في بلادٍ تشهد أزمة اقتصادية عامة، انكماش الاستثمار العمومي في البنية التحتية الصحية، تقادم الآلات الطبية وعطبها، عزوف أطباء الاختصاص عن العمل في المناطق الداخلية أمراض مزمنة لهذا القطاع العمومي، ما عمّق الإحساس بالحرمان ومشاعر السخط لدى فئاتٍ واسعة. وازداد الأمر سوءا، حين توقفت سياسات التوظيف في القطاع العام، ومنه قطاع الصحة، منذ أكثر من ثلاث سنوات، تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة، وبعض شروط صندوق النقد الدولي الذي يتهمه بعضهم بفرض إملاءاته على البلاد، منتهكا سيادتها، وغير عابئ بحاجاتها الحقيقية.
شهدت تونس، على إثر ذلك، اختلالا فادحا في الخريطة الصحية، إذ على الرغم من كل الجهد العمومي، ظلت المناطق الداخلية تعاني من غياب عدالةٍ في الخدمات، فغابت المؤسسات الاستشفائية الجامعية، واقتصرت على مؤسساتٍ يغيب فيها طب الاختصاص، فضلا عن التجهيزات والتقنيات الضرورية. وقد كشفت الاعتداءات الإرهابية على القوات العسكرية والأمنية، مثلا، عن ضحالة تلك البنية، لاستقبال ضحايا تلك الاعتداءات الآثمة. كما تضاعف الاختلال، حين غدا طبقيا أيضا، لا تتساوى فيه حظوظ الفئات الاجتماعية أمام المرض، إذ غدا الميسورون يتوجهون إلى القطاع الخاص، للتمتع بخدماتٍ صحيةٍ ذات جودة، وتترك الأغلبية من أبناء الطبقات الشعبية "لصحة الحد الأدنى".
تتالت مؤشّرات الانهيار منذ مدة، ولكن الساسة لم يستخلصوا الدروس الصحيحة: عودة أمراض وأوبئة، كنا نخالها انقرضت، وفيات مرتفعة في فئات عمرية معينة، تحذيرات المنظمة العالمية للصحة المتكرّرة من ارتفاع حالات وفيات النساء الحوامل والرضع، مثلا، مرت من دون أن تجد لها آذانا صاغية، خصوصا في ظل أولويات أخرى. ويمكن القول إن أمراض الصحة العمومية في تونس ناجمة عن ثلاثة فيروسات تنخره، ذكرتها تقارير ودراسات عديدة رصينة:
فيروس أول ناجم عن ضعف الاستثمار العمومي في الصحة منذ عقود، تكوينا وبنية تحتية 
وتقنية، إذ تظل موازنة وزارة الصحة لا تفي بما هو ضروري، خصوصا وأن معظمها ذاهب إلى كتلة الأجور. لقد قضى زين العابدين بن علي 23 سنة، من دون أن يبنى مستشفى عموميا واحدا. واستمرت هذه الحالة حتى بعد الثورة. ينتظر الناس أن يروا مستشفيات عمومية تليق بهم، خصوصا في المناطق الداخلية: الكاف، جندوبة، القصرين، سيدي بوزيد.. إلخ.
الفيروس الثاني: فقدان النفوذ والسلطة التراتبية إذا استشرت ثقافة "رفض الأوامر والتعليمات". يذكر رؤساء الأقسام الطبية أنهم عاجزون عن إدارة أقسامهم لحالة التمرد المعمم والفوضى، إذ تسود "ثقافة نقابية عدمية" في قطاعٍ لا يتحمل هذه السلوكات، ما أشاع مناخا من التسيب وافتقاد الضمير المهني والقيم التي تقدّس، في الأصل، الحياة، وتُؤثر التضحية.
وأخيرا، فيروس الفساد، إذ أثبتت تقارير هيئات المراقبة العمومية، ومنها الهيئة العليا لمكافحة الفساد، أن ما يحدث في الصحة العمومية أمر تجاوز كل التصورات: أدوية تهرّب وتباع في السوق الموازية، وأخرى تجتاز الحدود، وكثير من الأخطاء الطبية القاتلة التي فيها تقصير بشري واضح.
لا يتطلب شفاء قطاع الصحة العمومية في تونس سوى سياسات عمومية جريئة، تهدف إلى التخلص من تلك الفيروسات: تمويل عمومي كاف للقطاع، ثقافة وقيم تخدم المريض باعتباره واجبا أخلاقيا ومهنيا. وأخيرا مكافحة الفساد، والضرب على أيادي الفاسدين في هذا، مهما كانت حصانتهم.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.