02 نوفمبر 2024
انتفاضة 17 أكتوبر في لبنان .. من أجل إصلاحات عاجلة
منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، تبخرت أوهام زعماء الطوائف والسياسيين الفاسدين في لبنان، وأيقنوا، إلى حد كبير، أن دوام سطوتهم على عقول الناس وجيوبها باتت من المحال. وها هم اليوم يرتجفون هلعًا من شبحٍ يقضّ مضاجعهم هو هجوم جموع المنتفضين على قصورهم وشركاتهم ومحالهم التجارية ومصارفهم، وها هي ركبهم تصطكّ جزعًا من أن يعمد المحتجون إلى احتلال مراكز سيطرتهم، كالقصر الجمهوري والسراي الكبير ومجلس النواب، وحرق كل ما يحول دون ذلك. ومن محاسن هذه الانتفاضة أن رجال السلطة وناهبي أموال الدولة بلعوا ألسنتهم، وقبعوا في منازلهم، وخلت شاشات التلفزة من صور وجوههم، وهذا حسنٌ جدًا بعدما ظلوا طويلًا نجومًا في محطات الإعلام المرئي. وإذا كان نجوم المجتمع في أي بلد طبيعي هم ممثلو السينما والممثلات الجميلات والراقصات وملكات الجمال، فإن أكثر النجوم حضورًا في الإعلام اللبناني هم رجال السياسة؛ فصورهم معلقة في كل مكان: على المباني ولافتات الطرق السريعة ونواصي الشوارع ومفارق الأزقة والزواريب. وأخبار هؤلاء وأخبار أبنائهم وزوجاتهم تتصدّر وسائط التواصل الاجتماعي، وكلما تزوج واحد منهم أو زوّج ابنه أو ابنته، تهبّ وسائل الإعلام للاحتفاء بذلك الحدث السفيه الذي تُراق فيه ملايين الدولارات في ليلة واحدة.
منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، والشبان اللبنانيون يعيشون كما تمنّى الجاحظ: حياة عريضة لا طويلة. وتكاد نشوة التمرّد تهدر في الأجساد المتحفزة التي تتلوى على إيقاعات الموسيقى الراعشة في مشهدٍ يغمره دخان اللفافات الذي يخرج منتشيًا من الحناجر المتعبة والقبضات المرتفعة، ومن الشفاه التي تحاكي التين إذا تشقّق. أما المآقي فهي خزّان الدمع المكتظة قهرًا وغيظًا وغضبًا، ولا سيما في أثناء الطرد من الشوارع والساحات؛ فالطرد هنا يشبه الطرد من الفردوس، والدمع تعبيرٌ عن فقدان تجربةٍ ثريةٍ في صنع الحرية.
مشاهد ومفارقات
الاشتراك في الانتفاضة خيرٌ من الكتابة عنها. ومع ذلك، الكتابة هي نوع من المشاركة الفعلية. وكان لافتًا أن بعض اليساريين التائبين، أي السابقين، شرعوا، منذ الأسابيع الأولى
للاحتجاجات، في عقد ندواتٍ لتعليم مجموعات المحتجين ماذا عليهم أن يفعلوا، وما يجب أن يُقال. وراحوا يكتبون في هذه الصحيفة أو تلك آراءهم القديمة والسقيمة التي استعادوها من مستودع الأشياء العتيقة، ويبيعون أفكارًا تلقينية مضحكة، ثم لا يلبثوا أن يسيروا إلى المقاهي متأبطين جرائدهم.. لعلهم ظنّوا أن المحتجين في طريقهم إليهم في المقاهي. واللافت أيضًا هو غلبة الإناث على جموع المحتجين، وبعض الفتيات ظهرن وهنّ يمارسن طرازًا من العنف ضد قوات قمع الشغب. وغلبة النساء لا تعني ألبتة ظهور تحولات اجتماعية في لبنان، إنما هو أمر طبيعي جدًا، لأن عدد النساء يفوق، بنسبة عالية، عدد الرجال جرّاء هجرة الشبان. ومن مفارقات الحشود أن نساءً منعمات ومرفّهات لم يتورّعنَ عن الكلام على الفقر والجوع و"الوجع"، في وقتٍ كانت زنودهن العارية تعبث بكلاب الدلماشيان والكانيش المدللة، وأصابعهن تتحرّك على شاشات هواتف الآي فون. وكثيرًا ما ردّدت بعض النسوة أنها كانت في باريس، طوال العشرين سنة الماضية، وقرّرت العودة إلى بلدها لبنان، لأن هناك أملًا جديدًا في أن يصبح لبنان وطنًا حقيقيًا. وليس مستغربًا ما تفعله الكاميرا وما يثيره سحر الشاشة لدى المحتجين، فما إن تسأل إحدى المراسلات أحد المتظاهرين عن مطالبه، حتى يبدأ كلامه بالقول إن لديه جنسية كندية أو فرنسية أو دنماركية، لكنه جاء خصيصًا إلى لبنان للمشاركة في التظاهر. وبالطبع، لم تكن المراسلة تسأله عن جنسيته الثانية، ولا أين كان يقيم في الحقبة الماضية، إنما هي غريزة الحديث عن النفس على طريقة الثرثرة الصباحية في منازل السيدات المطلقات، أو في مقاهي المثقفين.
كان من المؤمل أن تصبح الاحتجاجات، بعدما طال زمنها، مسرحًا يوميًا في الشارع، وأن تتحوّل الشوارع الرئيسة كلها إلى معارض فنية في الهواء الطلق. لكن هذا الهدف ما زال بعيد المنال، ربما لأن الخيال الجمعي ما زال شبه معدوم، أو لأن الحلم الجماعي لم يتشكل بعدُ. وقد استعمل المحتجون أغاني الاحتجاجات السورية وهتافاتها مع تغيير في كلماتها مثل "زيّنوا المرجة" التي نقلها الأخوان رحباني في صورة "زيّنوا الساحة" (غناء غسان صليبا)، و"الله محيي الجيش" و"يا صيدا نحن معاكِ للموت" و"سلمية سلمية" و"إرحل إرحل يا باسيل". ولم
يتمكّن كُتّاب الشعارات من ابتداع أي هتافاتٍ جذّابة، بل استعاروا كثيرًا منها مثل "لا تعليم ولا تدريس حتى يسقط الرئيس"، وهو شعار ظهر في احتجاجات الطلبة والمعلمين في القاهرة ضد الرئيس محمد نجيب في سنة 1954.
محزنُ الانحسار اللافت للشيوعيين (الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي والحلقات الماركسية المشتقة) وللقوميين العرب (البعث والناصرية) بعدما كانوا في ستينيات القرن المنصرم وسبعينياته أسياد التظاهرات. ومفرحٌ غياب الجماعات الإسلامية وضمور مجموعاتها وأنصارها الذين لم يظهروا في الاحتجاجات إلا بصورة مضحكة، أو بصورة مستنكرة كقطع الطريق الساحلية بين بلدتي الناعمة والجية في ساحل الشوف، أو في بعض مناطق عكّار في لبنان الشمالي، أو في بلدة عنجر البقاعية. وإذا كانت الانتفاضات العربية قد أعادت الاعتبار إلى الجماعات الدينية، ولو موقتًا، فإن الحركات الاحتجاجية الجديدة، سيما في لبنان والعراق والجزائر، كشفت عن وهن الجماعات الدينية ومحدودية تأثيرها.
أَثورة هي؟
منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 واللبنانيون، بأطيافهم وطوائفهم، وما انفكّ الكلام نفسه والكلمات ذاتها والعبارات عينها تدور على ألسنتهم، ولا شيء جديدًا: إسقاط النظام، واستعادة الأموال المنهوبة، ومحاكمة النهّابين، وقانون انتخابي جديد وإجراء انتخابات مبكرة لاستبدال الفئات السياسية التي سرقت أموال الشعب... إلخ، والجميع يتحدث مثل الجميع، وما عاد ثمة أي جديد. وقد استطاب المحتجون وصف أنفسهم بـِ "الثوار"، واستمرأوا أن يطلقوا على حركة الاحتجاجات اسم "الثورة". وقد اعتقدوا أنهم ثوار حقًا على غرار ثورة 1789 في فرنسا، أو كومونة باريس (1871)، أو الثورة الروسية (1905)، أو الثورة البلشفية الروسية (1917)، أو ثورة الطلبة والعمال في باريس (ربيع 1968)، أو على منوال أرنستو غيفارا في أدغال بوليفيا، أو ثوار الفيتكونغ عند ضفاف نهر الميكونغ في فيتنام. ومع ذلك لا بأس، موقتًا، في هذا المصطلح، غير الصحيح تاريخيًا ومعرفيًا ومفهوميًا واصطلاحيًا، والذي لا يجادل أحد في أن الثقافة الساذجة والبدائية لمعظم المحتجين هي التي صاغت وسم الثورة هذا؛ فالثورة الفرنسية أو الثورة الروسية جعلتا نصب أعين الثوار هدفًا واحدًا هو الاستيلاء بالعنف
على السلطة، واقتلاع الطبقات الحاكمة نهائيًا من الدولة ومؤسساتها، وتأسيس سلطة جديدة تمامًا بعد محاكمة رجال السلطة القديمة. فهل هذا هو هدف "الثوار" في لبنان؟ وهل إن هذا المسار مطروح حقًا على جدول أعمال الناشطين في ساحات المدن اللبنانية؟
إما ثورة أو انتفاضة. إذا كانت حركة الاحتجاجات ثورة، فما على "الثوار" إلا تأليف "لجنة ثورية" تكون مهمتها الاستيلاء الفوري على السلطة: مقر الرئاسات الثلاث (القصر الجمهوري والسراي الكبير ومجلس النواب)، وتأليف "لجنة ثورية للأمن" مهمتها حماية الثائرين، و"لجنة للعدالة الثورية" تعتقل جميع الوزراء والمسؤولين ورؤساء الأحزاب وزعماء الطوائف ورجال الدين وقادة الأجهزة الأمنية وأصحاب المصارف والتجار ورجال الأعمال، وتصادر أموالهم وممتلكاتهم وتحيلهم على "القضاء الثوري" لإصدار الأحكام الثورية بحقهم. وعلى "الثائرين" إنهاء ازدواج السلطة على غرار ما فعلته الثورة الروسية حين قضت على حكومة كيرنيسكي في 25/10/1917. ولكن هذا الكلام سيكون مضحكًا تماماً لو أردنا استنساخه ثم تطبيقه في الحال اللبنانية، ومن شأن ذلك أن يؤدّي إلى حرب أهلية فورية، وإلى هزيمة دامية لـِ "الثوار" خلال 72 ساعة، فمن سيلقي القبض على رئيس مجلس النواب ويقتاده هو ونوابه ووزراؤه إلى المحاكمة الثورية؟ ومن سيعتقل رئيس الجمهورية وبناته وأصهاره وأنصاره وقادة حزبه؟ وهل يجرؤ أحد على تصفيد سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع بالحديد؟ حينذاك ستهبّ الطوائف كلها لحماية أبنائها حتى لو كانوا فاسدين، وسينهار لبنان تماماً.
أما إذا اعتبرنا ما يحدث في الشارع انتفاضة أو حركة احتجاج، وهو الصحيح، فمن الملائم أن يتفاهم المحتجون، بسرعة، مع السلطة على الإصلاحات العاجلة التي باتت معروفة. وحتى لو لم ينل المحتجّون جميع مطالبهم الإصلاحية، فإنهم سيحصلون عليها بالتدريج في المدى المتوسط بشرط البقاء في حالة تأهب، مع المحافظة على قدرتهم على تحريك التظاهرات في
أي وقت. الإصلاح ثورة في لبنان أو في البلدان التي تشبه لبنان. أما "الثورة" فدونها الخراب العميم. صحيحٌ أن فكرة "الثورة"، على الرغم من شيوعها اليومي في الألسن والأشداق، فكرة ذهنية ليس أكثر، وهي ليست موجودةً على طاولة أي فريق لبناني. بيد أن جهات خفية ومكشوفة معاً تتطلع إلى إحداث فوضى عارمة في لبنان في وجه حزب الله مثلًا. والمعروف أن التظاهرات اندلعت، في البداية، ضد الفساد وسوء الأحوال المعيشية، وفي سبيل استرداد الأموال المنهوبة ومحاكمة الفاسدين، وتأمين وظائف للعاطلين من العمل، لكنها تحولت، بسرعة، إلى المناداة بتغيير النظام. وتغيير النظام مسألة تكاد تلامس المحال في المجتمع الطائفي اللبناني، ومن شأن طرحها للنقاش الفكري والسياسي أن يقسم البلد إلى خندقين. وأي مواجهةٍ بين خندق المحتجين والخندق المقابل الذي يكمن الخوف فيه كمون النار في الصوان ستؤدّي، بالضرورة، إلى صدام أهلي – طائفي راعب. ولكن ما يلجم هذا الاحتمال، ولو إلى حين، هو الخوف من متلازمة غورباتشوف (الإصلاح الذي أدى إلى الفوضى وانهيار الاتحاد السوفياتي)، أو متلازمة الجزائر (انتخابات أدّى إلغاؤها إلى حرب أهلية دامت عشر سنوات)، أو متلازمة سورية (حركة احتجاجات تحولت إلى حرب أهلية متسربلة بالطائفية)، أو متلازمة مصر (ثورة أدت إلى عودة الجيش إلى السلطة). الانتفاضة في لبنان لا تريد أن تحكم أو تتحكّم بالسياسات العامة، بل تريد أن يصلح النظام السياسي المهترئ نفسه لمصلحة الشعب. وما يلائم هذا الوضع هو الانتفاضة من تحت، كما هو جارٍ اليوم، والإصلاح من فوق. وحتى فكرة "العصيان المدني" التي تجول في رؤوس بعض منظمي الاحتجاجات، يمكن أن يكون لها تأثير قوي في البلدان المستقرّة نسبيًا والتي تعاني مشكلاتٍ في العدالة الاجتماعية مثلًا، لكنها في بلد "منتوف" مثل لبنان ستكون كارثة.
الخوف من التغيير
كان من المتوقع أن تنعش حركة الاحتجاجات اللبنانية آمال الناس، وأن تعزّز التطلع نحو مستقبل أفضل ومزدهر ومفعم بالأمان الاجتماعي. ولكن ما حدث أن الخوف صار سيد الحياة اليومية: الخوف على الودائع المصرفية، والخوف على سعر الليرة اللبنانية، والخوف على الرواتب المتآكلة، والخوف من التضخم ومن فقدان لقمة العيش، والخوف من انهيار مالي يدمّر أي إمكانية للعيش في لبنان. وفي معمعان ذلك الجدال الحارق؛ جدل الشوارع والساحات،
وجدل السلطة السياسية العاجزة والمتهالكة، بدأ الكلام يدور، لا على الأحلام هذه المرّة، بل على تلمّس إمكانية الخروج من المأزق، بعدما برهنت الوقائع الجارية أن ما يمنع الانتفاضة من الوصول إلى معظم أهدافها هو الطوائف كلها بلا استثناء، وزعماء الطوائف وحرّاس مصالحها من السياسيين القادة. ولبنان، كما هو معروف، كونفدرالية طوائف، ولكل طائفةٍ حصة مخصوصة في ثروة البلد. وكل طائفةٍ تنهب حصتها من المال العام ومن المنافع الأخرى، كالصناديق المالية والاستثمارات والمعونات، من دون أن يثير سلوكها هذا أي استهجان. وتبدأ الاحتجاجات الطائفية عندما تمتدّ أيدي الطوائف الأخرى إلى حصة طائفة ما. عند ذلك، يدقّ جرس الإنذار، ويبدأ هياج الطوائف. والدولة اللبنانية، منذ تأسيسها، غنيمة تُوزع على الطوائف بنسبٍ متفاوتة. ولكن زعماء الطوائف هم مَن يلتهم المنافع في البداية، ثم تنشأ لاحقًا شبكات زبونية حول أولئك الزعماء مؤلفة من أبناء الطوائف نفسها.
المستجد في لبنان أن الوظائف التي يؤمنها الزعيم الطائفي لأتباعه راحت تفقد قيمتها شيئًا فشيئًا جرّاء التضخم المتفاقم. وهكذا، ربما بدأت عملية الانفصال بين الزعيم والرعية، وبدأت العلاقة الزبونية بين الاثنين تتشقّق، لأن الوظائف ما عادت تلبّي طموح الشبان اللاهثين وراء العلم والعمل، وصار لا خيار أمامهم غير الوظيفة السقيمة أو الهجرة، فيما يتنعّم الزعماء والمقرّبون منهم بأنعام وافرة جرّاء الفساد، ولا يتورّعون عن المجاهرة بالثروة عهرًا وفجورًا. وبهذا المعنى، يمكن المجازفة بالقول إن من غير الممكن القضاء على الفساد في لبنان، لأن الفساد هو الوشم المنقوش على جسد الكيان اللبناني منذ ولادته على يدي الجنرال الاستعماري الفرنسي غورو في سنة 1920. والفساد ولبنان توأمان سياميان، لا يعيش الواحد من دون الثاني. ولكن، يمكن حصر الفساد في أدنى مقاديره. كما أن السلطة الحالية في لبنان هي تحالف زعماء المليشيات الطائفية، وهؤلاء هم زعماء الطوائف في الوقت نفسه، وأصحاب أعمال ومليارات ومنافع، وديدنهم هو اقتسام الثروة والمصالح. ولا يمكن رسم التخوم الواضحة بين الدولة والسلطة، ومن الصعب اكتشاف التداخل والتخارج بينهما. لذلك فإن أي انتفاضة ضد السلطة الناهبة، حتى لو كانت ذات مطالب محقّة، ستُواجَه بخطر انهيار الدولة نفسها التي هي دولة الطوائف المكوّنة لها. والجيش الذي هو أداة السلطة في الحكم في زمن السلم لن يسلم من التفكّك في أثناء الاحتراب الأهلي كما حدث في سنة 1975 وفي سنة 1983. ولن تتمكّن مؤسسة الجيش وأجهزة الأمن من حماية السلطة ومؤسساتها ورجال أعمالها وأعيانها إذا احتدم الصراع الداخلي وتدحرج نحو صدام أهلي عنيف. حينذاك، ستحرق النيران المصارف والأسواق التجارية ومراكز الأعمال وبيوت جميع المرتشين والفاسدين والناهبين.
* * *
ما البديل من دولة الطوائف؟ البديل هو دولة المواطنة المتساوية والديمقراطية والعَلمانية. غير أن الانتقال من دولة الطوائف إلى الدولة الديمقراطية العَلمانية مسألة معقدة جدًا، وهي، في أي حال، تحتاج إلى قادحٍ ما، أي إلى بداية. ولعل حركة الاحتجاجات الآن تغمر بعض أجزاء العالم العربي، كالعراق والجزائر ولبنان، تكون هي قادح الشرر في ذلك الليل الذي امتدّ طويلاً طويلًا.
مشاهد ومفارقات
الاشتراك في الانتفاضة خيرٌ من الكتابة عنها. ومع ذلك، الكتابة هي نوع من المشاركة الفعلية. وكان لافتًا أن بعض اليساريين التائبين، أي السابقين، شرعوا، منذ الأسابيع الأولى
كان من المؤمل أن تصبح الاحتجاجات، بعدما طال زمنها، مسرحًا يوميًا في الشارع، وأن تتحوّل الشوارع الرئيسة كلها إلى معارض فنية في الهواء الطلق. لكن هذا الهدف ما زال بعيد المنال، ربما لأن الخيال الجمعي ما زال شبه معدوم، أو لأن الحلم الجماعي لم يتشكل بعدُ. وقد استعمل المحتجون أغاني الاحتجاجات السورية وهتافاتها مع تغيير في كلماتها مثل "زيّنوا المرجة" التي نقلها الأخوان رحباني في صورة "زيّنوا الساحة" (غناء غسان صليبا)، و"الله محيي الجيش" و"يا صيدا نحن معاكِ للموت" و"سلمية سلمية" و"إرحل إرحل يا باسيل". ولم
محزنُ الانحسار اللافت للشيوعيين (الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي والحلقات الماركسية المشتقة) وللقوميين العرب (البعث والناصرية) بعدما كانوا في ستينيات القرن المنصرم وسبعينياته أسياد التظاهرات. ومفرحٌ غياب الجماعات الإسلامية وضمور مجموعاتها وأنصارها الذين لم يظهروا في الاحتجاجات إلا بصورة مضحكة، أو بصورة مستنكرة كقطع الطريق الساحلية بين بلدتي الناعمة والجية في ساحل الشوف، أو في بعض مناطق عكّار في لبنان الشمالي، أو في بلدة عنجر البقاعية. وإذا كانت الانتفاضات العربية قد أعادت الاعتبار إلى الجماعات الدينية، ولو موقتًا، فإن الحركات الاحتجاجية الجديدة، سيما في لبنان والعراق والجزائر، كشفت عن وهن الجماعات الدينية ومحدودية تأثيرها.
أَثورة هي؟
منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 واللبنانيون، بأطيافهم وطوائفهم، وما انفكّ الكلام نفسه والكلمات ذاتها والعبارات عينها تدور على ألسنتهم، ولا شيء جديدًا: إسقاط النظام، واستعادة الأموال المنهوبة، ومحاكمة النهّابين، وقانون انتخابي جديد وإجراء انتخابات مبكرة لاستبدال الفئات السياسية التي سرقت أموال الشعب... إلخ، والجميع يتحدث مثل الجميع، وما عاد ثمة أي جديد. وقد استطاب المحتجون وصف أنفسهم بـِ "الثوار"، واستمرأوا أن يطلقوا على حركة الاحتجاجات اسم "الثورة". وقد اعتقدوا أنهم ثوار حقًا على غرار ثورة 1789 في فرنسا، أو كومونة باريس (1871)، أو الثورة الروسية (1905)، أو الثورة البلشفية الروسية (1917)، أو ثورة الطلبة والعمال في باريس (ربيع 1968)، أو على منوال أرنستو غيفارا في أدغال بوليفيا، أو ثوار الفيتكونغ عند ضفاف نهر الميكونغ في فيتنام. ومع ذلك لا بأس، موقتًا، في هذا المصطلح، غير الصحيح تاريخيًا ومعرفيًا ومفهوميًا واصطلاحيًا، والذي لا يجادل أحد في أن الثقافة الساذجة والبدائية لمعظم المحتجين هي التي صاغت وسم الثورة هذا؛ فالثورة الفرنسية أو الثورة الروسية جعلتا نصب أعين الثوار هدفًا واحدًا هو الاستيلاء بالعنف
إما ثورة أو انتفاضة. إذا كانت حركة الاحتجاجات ثورة، فما على "الثوار" إلا تأليف "لجنة ثورية" تكون مهمتها الاستيلاء الفوري على السلطة: مقر الرئاسات الثلاث (القصر الجمهوري والسراي الكبير ومجلس النواب)، وتأليف "لجنة ثورية للأمن" مهمتها حماية الثائرين، و"لجنة للعدالة الثورية" تعتقل جميع الوزراء والمسؤولين ورؤساء الأحزاب وزعماء الطوائف ورجال الدين وقادة الأجهزة الأمنية وأصحاب المصارف والتجار ورجال الأعمال، وتصادر أموالهم وممتلكاتهم وتحيلهم على "القضاء الثوري" لإصدار الأحكام الثورية بحقهم. وعلى "الثائرين" إنهاء ازدواج السلطة على غرار ما فعلته الثورة الروسية حين قضت على حكومة كيرنيسكي في 25/10/1917. ولكن هذا الكلام سيكون مضحكًا تماماً لو أردنا استنساخه ثم تطبيقه في الحال اللبنانية، ومن شأن ذلك أن يؤدّي إلى حرب أهلية فورية، وإلى هزيمة دامية لـِ "الثوار" خلال 72 ساعة، فمن سيلقي القبض على رئيس مجلس النواب ويقتاده هو ونوابه ووزراؤه إلى المحاكمة الثورية؟ ومن سيعتقل رئيس الجمهورية وبناته وأصهاره وأنصاره وقادة حزبه؟ وهل يجرؤ أحد على تصفيد سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع بالحديد؟ حينذاك ستهبّ الطوائف كلها لحماية أبنائها حتى لو كانوا فاسدين، وسينهار لبنان تماماً.
أما إذا اعتبرنا ما يحدث في الشارع انتفاضة أو حركة احتجاج، وهو الصحيح، فمن الملائم أن يتفاهم المحتجون، بسرعة، مع السلطة على الإصلاحات العاجلة التي باتت معروفة. وحتى لو لم ينل المحتجّون جميع مطالبهم الإصلاحية، فإنهم سيحصلون عليها بالتدريج في المدى المتوسط بشرط البقاء في حالة تأهب، مع المحافظة على قدرتهم على تحريك التظاهرات في
الخوف من التغيير
كان من المتوقع أن تنعش حركة الاحتجاجات اللبنانية آمال الناس، وأن تعزّز التطلع نحو مستقبل أفضل ومزدهر ومفعم بالأمان الاجتماعي. ولكن ما حدث أن الخوف صار سيد الحياة اليومية: الخوف على الودائع المصرفية، والخوف على سعر الليرة اللبنانية، والخوف على الرواتب المتآكلة، والخوف من التضخم ومن فقدان لقمة العيش، والخوف من انهيار مالي يدمّر أي إمكانية للعيش في لبنان. وفي معمعان ذلك الجدال الحارق؛ جدل الشوارع والساحات،
المستجد في لبنان أن الوظائف التي يؤمنها الزعيم الطائفي لأتباعه راحت تفقد قيمتها شيئًا فشيئًا جرّاء التضخم المتفاقم. وهكذا، ربما بدأت عملية الانفصال بين الزعيم والرعية، وبدأت العلاقة الزبونية بين الاثنين تتشقّق، لأن الوظائف ما عادت تلبّي طموح الشبان اللاهثين وراء العلم والعمل، وصار لا خيار أمامهم غير الوظيفة السقيمة أو الهجرة، فيما يتنعّم الزعماء والمقرّبون منهم بأنعام وافرة جرّاء الفساد، ولا يتورّعون عن المجاهرة بالثروة عهرًا وفجورًا. وبهذا المعنى، يمكن المجازفة بالقول إن من غير الممكن القضاء على الفساد في لبنان، لأن الفساد هو الوشم المنقوش على جسد الكيان اللبناني منذ ولادته على يدي الجنرال الاستعماري الفرنسي غورو في سنة 1920. والفساد ولبنان توأمان سياميان، لا يعيش الواحد من دون الثاني. ولكن، يمكن حصر الفساد في أدنى مقاديره. كما أن السلطة الحالية في لبنان هي تحالف زعماء المليشيات الطائفية، وهؤلاء هم زعماء الطوائف في الوقت نفسه، وأصحاب أعمال ومليارات ومنافع، وديدنهم هو اقتسام الثروة والمصالح. ولا يمكن رسم التخوم الواضحة بين الدولة والسلطة، ومن الصعب اكتشاف التداخل والتخارج بينهما. لذلك فإن أي انتفاضة ضد السلطة الناهبة، حتى لو كانت ذات مطالب محقّة، ستُواجَه بخطر انهيار الدولة نفسها التي هي دولة الطوائف المكوّنة لها. والجيش الذي هو أداة السلطة في الحكم في زمن السلم لن يسلم من التفكّك في أثناء الاحتراب الأهلي كما حدث في سنة 1975 وفي سنة 1983. ولن تتمكّن مؤسسة الجيش وأجهزة الأمن من حماية السلطة ومؤسساتها ورجال أعمالها وأعيانها إذا احتدم الصراع الداخلي وتدحرج نحو صدام أهلي عنيف. حينذاك، ستحرق النيران المصارف والأسواق التجارية ومراكز الأعمال وبيوت جميع المرتشين والفاسدين والناهبين.
* * *
ما البديل من دولة الطوائف؟ البديل هو دولة المواطنة المتساوية والديمقراطية والعَلمانية. غير أن الانتقال من دولة الطوائف إلى الدولة الديمقراطية العَلمانية مسألة معقدة جدًا، وهي، في أي حال، تحتاج إلى قادحٍ ما، أي إلى بداية. ولعل حركة الاحتجاجات الآن تغمر بعض أجزاء العالم العربي، كالعراق والجزائر ولبنان، تكون هي قادح الشرر في ذلك الليل الذي امتدّ طويلاً طويلًا.