06 أكتوبر 2024
هل الحلّ في حكومات التكنوقراط؟
السودان، لبنان، العراق، وغيرها، دول عربية تقول إن حكومة التكنوقراط هي الحل. هي القادرة على إخراج البلاد من أزماتها؛ فأفرادها مستقلون عن القوى السياسية، ومهنيون بامتياز، ويعتمدون على الموارد لتأمين حاجات الناس، وتحقيق مطالب الثورات في العدالة والكرامة والحرية وتأمين فرص العمل.
ليست هناك مرحلة معينة في تطور الصراع السياسي أو أزمة معينة في بلد ما تستدعي حكومة التكنوقراط، حيث يمكن تشكيلها في أوقاتٍ ليس فيها أزمات، ولكن عادة ما يُستدعى التكنوقراط في أثناء الأزمات، وهذا سبب احتمال اعتمادها في لبنان والعراق بعدما اعتمدت في السودان. هناك من يشيد بتجربتها في الصين، وهناك من يرى أن أصلها يعود إلى فكرة الإدارة العلمية والمهنية لشؤون المعامل والحكومات بعامة. إذاً، هناك أسباب عديدة لضرورتها. وفي البلاد العربية، يتقدّم طرحها بسبب فشل النظام القديم، وعدم تمكن القوى الثورية من الإجهاز عليه، وتشكيل حكوماتها الثورية. التكنوقراط هم الحل الوسط إذاً، والمشكلة أنهم غير منتخبين، وآراء أخرى تؤكد أنهم غير ديمقراطيين، ولا يولون أهمية كبرى للقوى السياسية والحزبية، حيث يتم اختيارهم بشكل غير ديمقراطي، وهذا يستدعي حكومةً نافذةً وقويةً وخارج التصنيفات السياسية. ولكن هل فعلاً حكومات التكنوقراط بلا رؤية سياسية أو اقتصادية طبقية معينة، وخارج حقل الصراع السياسي؟ هل هي مستقلة في توجهاتها، وبمقدورها أن تختار سياسات مستقلة لشؤون دولها، كما يأمل كثيرون في لبنان والعراق؟
لبنان والعراق والسودان في أزماتٍ معقدة، ولهذا اختاروا التكنوقراط، أو يسعون إلى اختيارهم. هنا يُسجَل وجود قوى سياسية طائفية وقوى ثورية قوية، وبالتالي كيف ستتمكّن حكومة التكنوقراط من تحييد هذه وتلك، وتثمير الموارد واستعادة الأموال المنهوبة، ومحاربة الفساد والتضخم
البيروقراطي لجهاز الدولة، وعدم طلب المال من البيوتات المالية الدولية، أي كما فعلت الأنظمة الديكتاتورية قبل العام 2011 وما بعده، وكانت نتيجتها الانهيار العام والثورات؟ طبعاً ستسقط محاولات الأنظمة في الالتفاف على الثورات والشعوب بإسكاتها عبر تشكيل حكومات تكنوقراط بعض الوقت، ومن ثم التخلي عنها، والعودة إلى ما كانت عليه، كما حالة مصر مثلاً. إذاً يتقدّم التفكير الداعي إلى التكنوقراط، وكأنه انتصار حقيقي على النظام القديم، والأخير يرى حكم التكنوقراط بمثابة فترةٍ للالتفاف عل مطالب الثورات، والتي أقصاها إنهاء أي شكلٍ للنظام القديم، وأبسطها الإصلاح الشامل.
أولى القضايا الإشكالية بخصوص التكنوقراط، أنهم لا يمتلكون رؤية اقتصادية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية خارج السياسات الليبرالية العالمية، وهيمنة الدول العظمى على بلادهم! وثانيتها أنه ليس في مقدورهم تجاوز الخطوط الحمر للقوى الطبقية والسياسية التي جاءت بهم إلى الحكم، وهذه مشكلة كبرى. ومن الخطأ تصوير التكنوقراط وكأنهم وضعوا في قيادة الحكومة من تلقاء أنفسهم، أو من خارج صراعات الأنظمة والشعوب، وأن البلاد سُلمت لهم ليفعلوا بها ما يشاؤون. ولنفترض حسن النية في تسليم البلاد للتكنوقراط، وبعد الملاحظات السابقة، كيف بمقدورهم تثمير الموارد وتأمين حاجات البلاد؟ قلت، الأمر غير ممكن بالنسبة لهم خارج سياق السياسات الليبرالية الجديدة، ولكن البلاد المتأزّمة تتطلب غير ذلك، والبدء بمشاريع اقتصادية وطنية كبرى، تتناول النهوض بالصناعة والزراعة أولاً، وتفعيل التعليم والوعي والقضاء على كل شكل للتمييز بين المواطنين، لا سيما بين الجنسين ثانياً؛ والمشاريع هذه تتطلب حتماً صداماً مع القوى القديمة، واستعادة الأموال المنهوبة، وتغييراً كبيراً في القوانين ليكون بمقدور القضاء وجهاز الشرطة متابعة هذه القضايا، ثالثاً.
حكومة التكنوقراط والنهوض الوطني
يتطلب النهوض بالصناعة والزراعة أموالاً كثيرة، وسيكون مصدرها الأساسي الداخل، وهي مشكلة حقيقية، فمن أين ستاتي الأموال؟ حيث ليس هناك بيوتات مالية أو دول خارجية تدعم مشاريع وطنية، لفتراتٍ زمنية ليست قصيرة، للبدء بالإنتاج الكبير. عادة ما يرفض الخارج مشاريع كهذه. ولكن في حال تمت عملية الاستدانة، فيفترض أن تكون ضمن شروط تمنع تحوّل الاستدانة إلى عبءٍ على الاقتصاد والأغلبية المفقرة وتدفع البلاد إلى مزيدٍ من النهب والتبعية، وهي إشكالية كبرى، حيث تندر الدول التي استطاعت تفادي الوقوع بالتبعية من جرّاء الديون الخارجية، ولو أضفنا أن للبيوتات المالية شروطها لإعطاء الأموال، ومنها اعتماد سياسات الليبرالية والتقشف، فإنها بالتأكيد لن تدعم مشروعاتٍ اقتصاديةً صناعية وزراعية! اختيار هذه المشاريع هنا، وليس للتجارة أو السياحة أو الخدمات الفندقية والبنكية والعقارية، لأن الأخيرة تأتي ثانية بعد الصناعة والزراعة، ولأنها مشاريع لا توظِف إلّا قلة من السكان، بينما أتت حكومة التكنوقراط من أجل تأمين فرص عمل لملايين العاطلين، وللنهوض بالاقتصاد الوطني ولمحاربة الفساد والنهب.
لو اعتُمدت حكومات التكنوقراط من أجل تسهيل الاستدانة، باعتبار أعضائها من الموثوقين دولياً، مهندسين وخبراء وأكاديميين، فإنها ستفشل سريعاً، لأنها ستعتمد سياسات إرضائية للدول
الخارجية، وهي السياسات الليبرالية الجديدة، والتي ستكون نتيجتها التبعية ومنع النهوض الصناعي والزراعي. يسمّى المهندس أو الخبير تكنوقراطياً حينما يُؤتى به لإدارة معمل أو مصنع، ولإخراج هذا المعمل أو المصنع من أزمته، وحينها سينجح التكنوقراطي بالضرورة، وهذا يعني أن هناك مصلحة أكيدة لأصحاب "المصنع، المنشأة، الأرض الكبيرة، ... إلخ" في ذلك الاختيار، بينما سبب تشكيل حكومة التكنوقراط مختلفٌ كليا، حيث وظيفتها الأساسية إدارة شؤون الدولة بكليتها وإخراجها من أزماتٍ كبيرة، وهذا محط صراعٍ مجتمعي كبير بين قوى رافضة للتغيير وأخرى مؤيدة له.
حكومة التكنوقراط مُعيَّنة وليست مُنتخبة، ولهذا توصف بأنها غير ديمقراطية، ولا تهتم كثيراً بالديمقراطية أو الحريات ولا بمصالح الناس بالمعنى المباشر، حيث وظيفتها تثمير كلية الموارد التي هي بالضرورة مملوكة للدولة، ولكن كيف سيُوجه التكنوقراط القطاع الخاص؟ هذا السؤال في صلب عملية إدارة الأزمة والخروج منها، حيث سيُقرأ تساؤلنا من خارج القوانين الرأسمالية التي لا تضع شروطاً على هذا القطاع. ولكن مهلاً؛ ألا تضع الصين شروطاً؟ ونحاج الصين بالتحديد، وهي ما هي، يدفع إلى السؤال الدقيق: هل يمكن لحكومة الكفاءات أن تنجح في بلدٍ متخلف من دون اشتراطات على القطاع الخاص، وتحدّد له المجالات التي سيعمل فيها من أجل النهوض الاقتصادي العام، وهذا سيكون ضمن خطةٍ وطنيةٍ للاقتصاد، وتشمل كل إدارات الدولة وثروات المجتمع.
على الرغم من إطالة التوضيح أعلاه، أعود إلى الفكرة: كيف ستوفق حكومة التكنوقراط بين أهداف الثورات ومصالح النظام القديم؟ وكيف ستفكك النظام القديم وتشكل الجديد، وهي القضية الأساسية المطروحة في كل من السودان والعراق ولبنان؟ المدقق في هذه الدول وطبيعة القوى التي اختارت أو تذهب إلى اختيار التكنوقراط يقول إن هذه الحكومات أمام مهماتٍ عسيرة ومعقدة، وفي أي قطاع مجتمعي، فهي وعلى الرغم من أنها ليست منتخبة، يُراد منها أن تنظم شؤون الدولة والمجتمع والقوى السياسية والاقتصادية، والإقرار بالديمقراطية شكلا للحكم ولحماية الحريات من أي تعدّيات، ومطلوبٌ منها كذلك تأمين ملايين من فرص العمل، وهو ما حاولت التصدي له السطور أعلاه، وكذلك مطلوبٌ منها أن تنهض بكلية المجتمع. تتطلب هذه المهمات حكومة أكثر من حكومة تكنوقراط، ولكن الصراع المجتمعي بين قوى السلطة والثورة لا يسمح بأكثر من ذلك، قصدت توجيه الأنظار إلى التدقيق في جدوى وخطأ التحدث والمطالبة بحكومة تكنوقراط من دون سياسات وبرامج ورؤى وطنية لكل المشكلات، وضرورة اشتراط القيام بها قبل أن تعطى المجال بالعمل. ولكن ألا يتناقض ذلك مع حياديتها وعدم حزبيتها وعدم تمثيل مصالح طبقة أو مصالح طبقية بعينها؟
يفترض وضع بلداننا الغارقة بكل أشكال الأزمات، بما فيها أزمة الهوية الوطنية، يفترض البحث الجدّي عن كيفية الانتقال من النظام القديم إلى الجديد، حيث سياسات كثيرة (التكنوقراط مثلاً) قد تعيد إنتاج الأزمات، وربما تفاقمها؛ ففي السودان هناك الجيش الداعم للتكنوقراط، وهو شريكٌ في كل ما يخص حكومة التكنوقراط! وفي العراق هناك القوى الطائفية القديمة، كما الحال في لبنان، ما زالت تماطل حتى في الاعتماد على التكنوقراط، وتريد تشكيل حكوماتٍ من سياسييها بالإضافة إلى التكنوقراط. المرحلة الانتقالية في السودان ربما هي فترة جيدة لإظهار قدرة التكنوقراط، مع أن هناك تحفظات كثيرة حول جدواها، وفي تونس، لم يستطع التكنوقراط تجاوز المشكلات، وكذلك الحكومات "الليبرالية"، وهذه حالة أكثر من دولة عربية.
جاء أعلاه أن التكنوقراط قد ينجح في مصنع أو في دولة كالصين، حيث هناك قوى نافذة تتحكّم
بكلية الوضع، ولديها رؤية وطنية عامة ورؤية للعالم بأكمله، بينما دول، كالعراق ولبنان والسودان ليست كذلك، وهي تتطلب نهوضاً متعدّد الأوجه، ومحاربة جدّية للفساد وللنهب. وبالتالي، قد لا تكون حكومة التكنوقراط الحل المناسب.
والمشكلة التي تواجه بلداننا العربية ضعف قوى السلطة والثورة، وكذلك في هامشية المتاح للتكنوقراط بالعمل حيث الدولة العميقة والتدخل الخارجي يتحكّمان بالسياسات العامة، ويُراد من التكنوقراط فقط إدارة بعض الملفات والوزارات. وضمن تلك السياسات، وفي إطار السياسات العالمية للاقتصاد، وهذا سيضعف بالتأكيد فرص النجاح للتكنوقراط. ولو أضيفت رؤيتهم ذاتها للمشكلات وللحلول، والتي تَعتمد، كما تكرّر هنا، الرؤية الليبرالية، ستكون نتائج حكوماتٍ كهذه، وهذا في حال اعتمادها، ليست جيدة، وربما سيئة. وقد يظهر السوء بسبب تهميش الديمقراطية والأحزاب السياسية، وهذا سيترك المجال مفتوحاً للقوى الدينية والمذهبية والإثنية بملء الفراغ، أي ستتقدّم القوى القديمة والطائفية السياسية، لسببين: التهميش والتعثر الذي سيرافق حكومات التكنوقراط ويليها. إذاً، ما هو بديل هذه الحكومات، وقد كانت هي بديلا عن الحكومات الطائفية والممثلة للأنظمة الاستبدادية؟ عدا ذلك، التكنوقراط طُرح في إطار عدم قدرة النظام القديم على حسم المعركة ضد قوى الثورة، وعدم قدرة الثورة على تصفية الضفة الأخرى.
تحديد المسائل
يتضمن تحديد المسائل بهذا الوضوح إعلان إفلاس حكومات التكنوقراط، ولدنيا سجلات أعمالها في أكثر من دولة عربية. وفي تونس مثلاً، ضمن ذلك، يصبح من الضرورة بمكان التفكير ملياً بالحكومات والأنظمة القادرة فعلاً على مواجهة الأزمات. هنا نرى أن القوى الثورية معنيةٌ بتوضيح رؤيتها الدقيقة للمستقبل، ووضع اشتراطات دقيقة وفقاً لحجمها في الصراع، وأن تتناول قضايا الاقتصاد والسياسة والتعليم والبنوك والضرائب بدقةٍ كبيرة، وهذا سيفرض على قوى الأنظمة والبنوك تحديد سياساتها بدقةٍ أكبر، وربما هذا سيُفجر الصراع، وربما يضع حدوداً دقيقة له أيضاً. ذلك وحده ما سيسمح بأفضل الممكنات وفي القضايا كافة، بينما الركون واستسهال فكرة التكنوقراط، كما أصبح متداولاً، ستكون نتائجهما ليست جيدة، وستفجران الصراع من جديد بكل وضوح، وبالتالي يجب اختصار الأزمنة لكي لا نهدرها عبثاً.
إذاً هناك أزمة كبرى تعاني منها بلداننا العربية وغير العربية، وتتعلق بأنظمة ناهبة وفاسدة
وتابعة، وظهور طبقات وفئات واسعة من المفقرين والمهمشين. والجديد في ذلك هي الثورات، والإشكالية تكمن في عدم قدرتها على حسم المعركة ضد الأنظمة القديمة. ولهذا تقدّمت فكرة التكنوقراط، ولكنها ليست الحل، للأسباب أعلاه.
تفرض الفكرة السابقة تحديد اشتراطاتٍ وطنيةٍ عامة، على التكنوقراط وسواهم الأخذ بها، وهي تستقي أفكارها من خارج سياق القوانين الرأسمالية، وهذا يفرض نقاشاً في طبيعة الثورات مجدّداً، فهل يمكن أن تتحوّل إلى ثوراتٍ وطنية، وبرؤية وطنية كبرى، وتتقدم ببرامج وسياسات من خارج الأفكار والمفاهيم السائدة: "الديمقراطية هي الحل" "والتكنوقراط هي الحل" و"محاربة الفساد هي الحل". قصدت من ذلك كله، هل يمكن للثورات أن تتبنّى رؤيةً تدمج أفكاراً يسارية وليبرالية كمرحلة انتقالية، وبما يسمح بانتقالٍ حقيقي لمجتمعاتنا، أي التأسيس لاقتصادٍ منتج ونظام ديمقراطي وسيادة وطنية، وتمثيل الطبقات الشعبية في مختلف مؤسسات الدولة، وليس فقط في النقابات والاتحادات؟
لا يتم هنا طرح الاشتراكية بديلا عن التكنوقراط، وعما سبقها، كما يفعل عقل يساري مسترخ لمحفوظاته الأبدية التي لا يطاولها الخطأ أبداً، وليس بسبب التجربة الاشتراكية الحقيقية المُرّة السابقة، بل بسبب أن طبيعة الثورات حالياً، وفي العام 2011، لم تتقدّم نحو هذه الأفكار حتى اللحظة، ولا تزال القوى الاشتراكية هشّة وهامشية وضعيفة ومربكة، وأغلبيتها تقف مع الأنظمة وضد الثورات، وبالتالي هناك ثوراتٌ شعبيةٌ حقيقية، وتتطلب رؤىً واضحة من المثقفين والمحللين، تساعدها في تحقيق أهدافها.
لا يستدعي التفكير بالثورات رفض المسبقات الليبرالية أو الاشتراكية، والتي هي برامج مكتملة الرؤى والسياسات بصورها الأساسية، ولكن من غير الصائب رفضها كذلك، أي أن تلك المسبقات والخبرات الكثيرة للدول التي عانت أزماتٍ كبرى وخرجت منها، تساعد، من دون شك، في الوصول إلى سياسات وطنية عامة، وبما ينقذ شعوبنا من الأزمات التي سببتها وتسببها لهم أنظمة الفساد والنهب والتبعية.
لبنان والعراق والسودان في أزماتٍ معقدة، ولهذا اختاروا التكنوقراط، أو يسعون إلى اختيارهم. هنا يُسجَل وجود قوى سياسية طائفية وقوى ثورية قوية، وبالتالي كيف ستتمكّن حكومة التكنوقراط من تحييد هذه وتلك، وتثمير الموارد واستعادة الأموال المنهوبة، ومحاربة الفساد والتضخم
أولى القضايا الإشكالية بخصوص التكنوقراط، أنهم لا يمتلكون رؤية اقتصادية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية خارج السياسات الليبرالية العالمية، وهيمنة الدول العظمى على بلادهم! وثانيتها أنه ليس في مقدورهم تجاوز الخطوط الحمر للقوى الطبقية والسياسية التي جاءت بهم إلى الحكم، وهذه مشكلة كبرى. ومن الخطأ تصوير التكنوقراط وكأنهم وضعوا في قيادة الحكومة من تلقاء أنفسهم، أو من خارج صراعات الأنظمة والشعوب، وأن البلاد سُلمت لهم ليفعلوا بها ما يشاؤون. ولنفترض حسن النية في تسليم البلاد للتكنوقراط، وبعد الملاحظات السابقة، كيف بمقدورهم تثمير الموارد وتأمين حاجات البلاد؟ قلت، الأمر غير ممكن بالنسبة لهم خارج سياق السياسات الليبرالية الجديدة، ولكن البلاد المتأزّمة تتطلب غير ذلك، والبدء بمشاريع اقتصادية وطنية كبرى، تتناول النهوض بالصناعة والزراعة أولاً، وتفعيل التعليم والوعي والقضاء على كل شكل للتمييز بين المواطنين، لا سيما بين الجنسين ثانياً؛ والمشاريع هذه تتطلب حتماً صداماً مع القوى القديمة، واستعادة الأموال المنهوبة، وتغييراً كبيراً في القوانين ليكون بمقدور القضاء وجهاز الشرطة متابعة هذه القضايا، ثالثاً.
حكومة التكنوقراط والنهوض الوطني
يتطلب النهوض بالصناعة والزراعة أموالاً كثيرة، وسيكون مصدرها الأساسي الداخل، وهي مشكلة حقيقية، فمن أين ستاتي الأموال؟ حيث ليس هناك بيوتات مالية أو دول خارجية تدعم مشاريع وطنية، لفتراتٍ زمنية ليست قصيرة، للبدء بالإنتاج الكبير. عادة ما يرفض الخارج مشاريع كهذه. ولكن في حال تمت عملية الاستدانة، فيفترض أن تكون ضمن شروط تمنع تحوّل الاستدانة إلى عبءٍ على الاقتصاد والأغلبية المفقرة وتدفع البلاد إلى مزيدٍ من النهب والتبعية، وهي إشكالية كبرى، حيث تندر الدول التي استطاعت تفادي الوقوع بالتبعية من جرّاء الديون الخارجية، ولو أضفنا أن للبيوتات المالية شروطها لإعطاء الأموال، ومنها اعتماد سياسات الليبرالية والتقشف، فإنها بالتأكيد لن تدعم مشروعاتٍ اقتصاديةً صناعية وزراعية! اختيار هذه المشاريع هنا، وليس للتجارة أو السياحة أو الخدمات الفندقية والبنكية والعقارية، لأن الأخيرة تأتي ثانية بعد الصناعة والزراعة، ولأنها مشاريع لا توظِف إلّا قلة من السكان، بينما أتت حكومة التكنوقراط من أجل تأمين فرص عمل لملايين العاطلين، وللنهوض بالاقتصاد الوطني ولمحاربة الفساد والنهب.
لو اعتُمدت حكومات التكنوقراط من أجل تسهيل الاستدانة، باعتبار أعضائها من الموثوقين دولياً، مهندسين وخبراء وأكاديميين، فإنها ستفشل سريعاً، لأنها ستعتمد سياسات إرضائية للدول
حكومة التكنوقراط مُعيَّنة وليست مُنتخبة، ولهذا توصف بأنها غير ديمقراطية، ولا تهتم كثيراً بالديمقراطية أو الحريات ولا بمصالح الناس بالمعنى المباشر، حيث وظيفتها تثمير كلية الموارد التي هي بالضرورة مملوكة للدولة، ولكن كيف سيُوجه التكنوقراط القطاع الخاص؟ هذا السؤال في صلب عملية إدارة الأزمة والخروج منها، حيث سيُقرأ تساؤلنا من خارج القوانين الرأسمالية التي لا تضع شروطاً على هذا القطاع. ولكن مهلاً؛ ألا تضع الصين شروطاً؟ ونحاج الصين بالتحديد، وهي ما هي، يدفع إلى السؤال الدقيق: هل يمكن لحكومة الكفاءات أن تنجح في بلدٍ متخلف من دون اشتراطات على القطاع الخاص، وتحدّد له المجالات التي سيعمل فيها من أجل النهوض الاقتصادي العام، وهذا سيكون ضمن خطةٍ وطنيةٍ للاقتصاد، وتشمل كل إدارات الدولة وثروات المجتمع.
على الرغم من إطالة التوضيح أعلاه، أعود إلى الفكرة: كيف ستوفق حكومة التكنوقراط بين أهداف الثورات ومصالح النظام القديم؟ وكيف ستفكك النظام القديم وتشكل الجديد، وهي القضية الأساسية المطروحة في كل من السودان والعراق ولبنان؟ المدقق في هذه الدول وطبيعة القوى التي اختارت أو تذهب إلى اختيار التكنوقراط يقول إن هذه الحكومات أمام مهماتٍ عسيرة ومعقدة، وفي أي قطاع مجتمعي، فهي وعلى الرغم من أنها ليست منتخبة، يُراد منها أن تنظم شؤون الدولة والمجتمع والقوى السياسية والاقتصادية، والإقرار بالديمقراطية شكلا للحكم ولحماية الحريات من أي تعدّيات، ومطلوبٌ منها كذلك تأمين ملايين من فرص العمل، وهو ما حاولت التصدي له السطور أعلاه، وكذلك مطلوبٌ منها أن تنهض بكلية المجتمع. تتطلب هذه المهمات حكومة أكثر من حكومة تكنوقراط، ولكن الصراع المجتمعي بين قوى السلطة والثورة لا يسمح بأكثر من ذلك، قصدت توجيه الأنظار إلى التدقيق في جدوى وخطأ التحدث والمطالبة بحكومة تكنوقراط من دون سياسات وبرامج ورؤى وطنية لكل المشكلات، وضرورة اشتراط القيام بها قبل أن تعطى المجال بالعمل. ولكن ألا يتناقض ذلك مع حياديتها وعدم حزبيتها وعدم تمثيل مصالح طبقة أو مصالح طبقية بعينها؟
يفترض وضع بلداننا الغارقة بكل أشكال الأزمات، بما فيها أزمة الهوية الوطنية، يفترض البحث الجدّي عن كيفية الانتقال من النظام القديم إلى الجديد، حيث سياسات كثيرة (التكنوقراط مثلاً) قد تعيد إنتاج الأزمات، وربما تفاقمها؛ ففي السودان هناك الجيش الداعم للتكنوقراط، وهو شريكٌ في كل ما يخص حكومة التكنوقراط! وفي العراق هناك القوى الطائفية القديمة، كما الحال في لبنان، ما زالت تماطل حتى في الاعتماد على التكنوقراط، وتريد تشكيل حكوماتٍ من سياسييها بالإضافة إلى التكنوقراط. المرحلة الانتقالية في السودان ربما هي فترة جيدة لإظهار قدرة التكنوقراط، مع أن هناك تحفظات كثيرة حول جدواها، وفي تونس، لم يستطع التكنوقراط تجاوز المشكلات، وكذلك الحكومات "الليبرالية"، وهذه حالة أكثر من دولة عربية.
جاء أعلاه أن التكنوقراط قد ينجح في مصنع أو في دولة كالصين، حيث هناك قوى نافذة تتحكّم
والمشكلة التي تواجه بلداننا العربية ضعف قوى السلطة والثورة، وكذلك في هامشية المتاح للتكنوقراط بالعمل حيث الدولة العميقة والتدخل الخارجي يتحكّمان بالسياسات العامة، ويُراد من التكنوقراط فقط إدارة بعض الملفات والوزارات. وضمن تلك السياسات، وفي إطار السياسات العالمية للاقتصاد، وهذا سيضعف بالتأكيد فرص النجاح للتكنوقراط. ولو أضيفت رؤيتهم ذاتها للمشكلات وللحلول، والتي تَعتمد، كما تكرّر هنا، الرؤية الليبرالية، ستكون نتائج حكوماتٍ كهذه، وهذا في حال اعتمادها، ليست جيدة، وربما سيئة. وقد يظهر السوء بسبب تهميش الديمقراطية والأحزاب السياسية، وهذا سيترك المجال مفتوحاً للقوى الدينية والمذهبية والإثنية بملء الفراغ، أي ستتقدّم القوى القديمة والطائفية السياسية، لسببين: التهميش والتعثر الذي سيرافق حكومات التكنوقراط ويليها. إذاً، ما هو بديل هذه الحكومات، وقد كانت هي بديلا عن الحكومات الطائفية والممثلة للأنظمة الاستبدادية؟ عدا ذلك، التكنوقراط طُرح في إطار عدم قدرة النظام القديم على حسم المعركة ضد قوى الثورة، وعدم قدرة الثورة على تصفية الضفة الأخرى.
تحديد المسائل
يتضمن تحديد المسائل بهذا الوضوح إعلان إفلاس حكومات التكنوقراط، ولدنيا سجلات أعمالها في أكثر من دولة عربية. وفي تونس مثلاً، ضمن ذلك، يصبح من الضرورة بمكان التفكير ملياً بالحكومات والأنظمة القادرة فعلاً على مواجهة الأزمات. هنا نرى أن القوى الثورية معنيةٌ بتوضيح رؤيتها الدقيقة للمستقبل، ووضع اشتراطات دقيقة وفقاً لحجمها في الصراع، وأن تتناول قضايا الاقتصاد والسياسة والتعليم والبنوك والضرائب بدقةٍ كبيرة، وهذا سيفرض على قوى الأنظمة والبنوك تحديد سياساتها بدقةٍ أكبر، وربما هذا سيُفجر الصراع، وربما يضع حدوداً دقيقة له أيضاً. ذلك وحده ما سيسمح بأفضل الممكنات وفي القضايا كافة، بينما الركون واستسهال فكرة التكنوقراط، كما أصبح متداولاً، ستكون نتائجهما ليست جيدة، وستفجران الصراع من جديد بكل وضوح، وبالتالي يجب اختصار الأزمنة لكي لا نهدرها عبثاً.
إذاً هناك أزمة كبرى تعاني منها بلداننا العربية وغير العربية، وتتعلق بأنظمة ناهبة وفاسدة
تفرض الفكرة السابقة تحديد اشتراطاتٍ وطنيةٍ عامة، على التكنوقراط وسواهم الأخذ بها، وهي تستقي أفكارها من خارج سياق القوانين الرأسمالية، وهذا يفرض نقاشاً في طبيعة الثورات مجدّداً، فهل يمكن أن تتحوّل إلى ثوراتٍ وطنية، وبرؤية وطنية كبرى، وتتقدم ببرامج وسياسات من خارج الأفكار والمفاهيم السائدة: "الديمقراطية هي الحل" "والتكنوقراط هي الحل" و"محاربة الفساد هي الحل". قصدت من ذلك كله، هل يمكن للثورات أن تتبنّى رؤيةً تدمج أفكاراً يسارية وليبرالية كمرحلة انتقالية، وبما يسمح بانتقالٍ حقيقي لمجتمعاتنا، أي التأسيس لاقتصادٍ منتج ونظام ديمقراطي وسيادة وطنية، وتمثيل الطبقات الشعبية في مختلف مؤسسات الدولة، وليس فقط في النقابات والاتحادات؟
لا يتم هنا طرح الاشتراكية بديلا عن التكنوقراط، وعما سبقها، كما يفعل عقل يساري مسترخ لمحفوظاته الأبدية التي لا يطاولها الخطأ أبداً، وليس بسبب التجربة الاشتراكية الحقيقية المُرّة السابقة، بل بسبب أن طبيعة الثورات حالياً، وفي العام 2011، لم تتقدّم نحو هذه الأفكار حتى اللحظة، ولا تزال القوى الاشتراكية هشّة وهامشية وضعيفة ومربكة، وأغلبيتها تقف مع الأنظمة وضد الثورات، وبالتالي هناك ثوراتٌ شعبيةٌ حقيقية، وتتطلب رؤىً واضحة من المثقفين والمحللين، تساعدها في تحقيق أهدافها.
لا يستدعي التفكير بالثورات رفض المسبقات الليبرالية أو الاشتراكية، والتي هي برامج مكتملة الرؤى والسياسات بصورها الأساسية، ولكن من غير الصائب رفضها كذلك، أي أن تلك المسبقات والخبرات الكثيرة للدول التي عانت أزماتٍ كبرى وخرجت منها، تساعد، من دون شك، في الوصول إلى سياسات وطنية عامة، وبما ينقذ شعوبنا من الأزمات التي سببتها وتسببها لهم أنظمة الفساد والنهب والتبعية.