15 نوفمبر 2024
هل تقع حرب أهلية أميركية جديدة؟
ليس من قبيل المبالغة القول إن رئاسة دونالد ترامب وضعت الولايات المتحدة على سكة الفوضى والانقسام المجتمعي والسياسي الحاد، بل قد تكون وضعتها على سكة المجهول. قد يبدو هذا الحكم مستغرباً على أساس أن أميركا "دولة مؤسسات"، ولكن من يتابع حيثيات المشهد الأميركي المعاصر وتفاصيله يجد مؤشرات ومعطيات تدل على ذلك. لا يكتفي ترامب بكسر قيم وأعراف أميركية كثيرة، ولا حتى في الإساءة إلى سمعة مؤسسة الرئاسة وكرامتها، بل إنه يؤسس لنمط سياسي جديد لم تعرفه أميركا، على الأقل في العصر الحديث. وإذا كانت الشبهات التي تدور حوله في التواطؤ مع روسيا في مزاعم التدخل في الانتخابات الرئاسية، عام 2016، والتي جاءت به رئيسا، كافية للتدليل على مستوى الانهيار الذي تعيشه الولايات المتحدة، فإن فضيحة ضغطه على الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، من أجل إجراء تحقيق محلي يطاول منافسه الديمقراطي المحتمل، جو بايدن، وابنه، بتهم فساد، تؤكد أن الولايات المتحدة تحت رئاسة ترامب غير الولايات المتحدة قبلها.
المشكلة هنا، أن ما يعرف بالـ Establishment، أو "مؤسسة الحكم" التقليدية، أو ما يصفها ترامب، عن وعي بالـ Deep State، أو "الدولة العميقة"، بهدف نزع الشرعية عنها، تبدو عاجزة عن التصدي لكثير من سياساته الخرقاء، دولياً ومحلياً، وهذا مرتبط إلى حد كبير بالخلل الذي أصاب بنية النظام السياسي الأميركي وتوازنات سلطاته الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية. وما دام ترامب يحظى بشعبيةٍ كاسحةٍ بين قواعد الحزب الجمهوري، فإن أغلب ممثليه في الكونغرس لن يتجرأوا على تحدّيه، وهذا يخلّ بمنطق نظام التوازنات، وبالتالي يوفر طوق نجاة لترامب أمام كل إساءة في استخدام السلطة، اللهم أن يقع تغيير جذري في التفاعلات الداخلية للحزب الجمهوري، أو أن يخسر ترامب الرئاسة عام 2020. حتى هذه النقطة الأخيرة غير مضمونة العواقب.
أخطر ما في تفاعلات فضيحة الملف الأوكراني التي اعترف بها ترامب بلسانه، وهو ما سمح
للديمقراطيين بإطلاق الإجراءات الأولية لاحتمال عزله من منصبه في مجلس النواب، أن ترامب لم يتورّع عن التلميح إلى احتمال تفجير شرارة "حرب أهلية" إن نجح الديمقراطيون في إقالته من الرئاسة. وعلى الرغم من أن إقالة الرئيس عملية صعبة دستورياً، وتبدو شبه مستحيلة في حالة ترامب، إذ يحتاج الديمقراطيون إلى ثلثي أصوات أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي الذي يسيطر عليه الجمهوريون، إلا أن مجرد تلميح ترامب بـ"حرب أهلية" أميركية بسبب ممارسة آلية دستورية يعد أمراً غير مسبوق في العصر الحديث للولايات المتحدة، هذا إذا كانت هناك سابقة تاريخية أميركية أصلا. لكن، ما يوجد سابقة تاريخية أميركية له هو الحرب الأهلية، والتي استمرت زهاء أربع سنوات في القرن التاسع عشر (1861- 1865) بسبب الخلاف بشأن تحرير "العبيد"، بين الحكومة الفدرالية مدعومة بالولايات الشمالية والولايات الجنوبية (الكونفدرالية). وقد خلفت تلك الحرب حوالي ثمانمائة ألف قتيل أميركي وأضعافهم من الجرحى والمصابين.
قد يجادل بعضهم بأن الولايات المتحدة اليوم ليست الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، وبأن
الحكومة الفدرالية تملك من أسباب القوة والسطوة، دع عنك المؤسسات والتراكم الدستوري والقانوني والخبراتي، ما لن يسمح بانفلات شرارة حرب أهلية، وهذا صحيح إلى حد كبير. ولكن هذا لا ينفي إمكانية تفجر نوع من "الصراع الأهلي"، خصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار انتشار الأسلحة الهجومية في أميركا، ودرجة الانقسام المجتمعي بين يمين ويسار، وصعود التيارات اليمينية العنصرية وتناميها. ومما يزيد من خطورة الوضع أن ثمّة عشرات المليشيات اليمينية العنيفة موزعة في كل أنحاء الولايات المتحدة، ولديها، تاريخياً، حساسية وبغض للسلطة الفدرالية. وما يعضد هذه المخاوف، أنه حين لمّح ترامب، نهاية الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، إلى إمكانية تفجر حرب أهلية أميركية إن نجحت جهود الديمقراطيين في إقالته، سارعت بعض تلك المليشيات، مثل Oath Keepers (المحافظون على العهد)، إلى دعوة أعضائها إلى الاستعداد لـ "حرب أهلية ساخنة كما جرى عام 1859". ولم تتردّد هذه الجماعة في التهديد بإعلان التعبئة العامة إذا أمرها ترامب بذلك، والإعلان عن عصيان مسلح إذا رأت أن قرارات الحكومة الفدرالية "غير دستورية".
الأدهى أن ترامب الذي لا يزال يجادل بأنه ربح انتخابات عام 2016، على الرغم من أنه الفائز المتوج بها، وقد مضى على رئاسته قرابة ثلاث سنوات، قد لا يقبل نتيجة الانتخابات الرئاسية أواخر العام المقبل إذا خسرها، وزعم أن تزويراً شابها. هذا ليس افتراضا خياليا، بل إنه لمح إلى ذلك. إذا وقع ذلك، على الرغم من استبعاد حدوثه، قد نكون أمام صداماتٍ دموية بين أنصاره ومعارضيه، وحينها ستكون أجهزة الأمن في وضع لا تحسد عليه، إذ سيكون ترامب رئيساً انتقالياً، قرابة شهرين ونصف، حتى يتسلم الفائز منه، وهو ما قد يطلق أزمة دستورية غير مسبوقة في التاريخ الأميركي.
باختصار، وبغض النظر عن مدى واقعية إمكانية تفجّر حرب أهلية أميركية، أو أيٍّ من أشكال الصدام المسلح المحدود بين أنصار ترامب والحكومة الفدرالية، أو بين أنصاره ومعارضيه، إلا أن ثمّة حقيقتين لا جدال فيهما: الأولى، أن أميركا تعيش انقساماً مجتمعياً وسياسياً حادّاً يصعب جسره، إذ إنه متصل بسؤال أي أميركا نريد. الثانية، وهي مؤسسة على الأولى، أن رئاسة ترامب غرست بذوراً سامة في الحياة السياسة والثقافية الأميركية، إن أثمرت يوماً قد تنتج للعالم فاشية أو نازية جديدتين، أشد خطورة وعنفاً.
أخطر ما في تفاعلات فضيحة الملف الأوكراني التي اعترف بها ترامب بلسانه، وهو ما سمح
قد يجادل بعضهم بأن الولايات المتحدة اليوم ليست الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، وبأن
الأدهى أن ترامب الذي لا يزال يجادل بأنه ربح انتخابات عام 2016، على الرغم من أنه الفائز المتوج بها، وقد مضى على رئاسته قرابة ثلاث سنوات، قد لا يقبل نتيجة الانتخابات الرئاسية أواخر العام المقبل إذا خسرها، وزعم أن تزويراً شابها. هذا ليس افتراضا خياليا، بل إنه لمح إلى ذلك. إذا وقع ذلك، على الرغم من استبعاد حدوثه، قد نكون أمام صداماتٍ دموية بين أنصاره ومعارضيه، وحينها ستكون أجهزة الأمن في وضع لا تحسد عليه، إذ سيكون ترامب رئيساً انتقالياً، قرابة شهرين ونصف، حتى يتسلم الفائز منه، وهو ما قد يطلق أزمة دستورية غير مسبوقة في التاريخ الأميركي.
باختصار، وبغض النظر عن مدى واقعية إمكانية تفجّر حرب أهلية أميركية، أو أيٍّ من أشكال الصدام المسلح المحدود بين أنصار ترامب والحكومة الفدرالية، أو بين أنصاره ومعارضيه، إلا أن ثمّة حقيقتين لا جدال فيهما: الأولى، أن أميركا تعيش انقساماً مجتمعياً وسياسياً حادّاً يصعب جسره، إذ إنه متصل بسؤال أي أميركا نريد. الثانية، وهي مؤسسة على الأولى، أن رئاسة ترامب غرست بذوراً سامة في الحياة السياسة والثقافية الأميركية، إن أثمرت يوماً قد تنتج للعالم فاشية أو نازية جديدتين، أشد خطورة وعنفاً.