حلف بومبيو.. مزامير واشنطن العتيقة

14 يناير 2019
+ الخط -
لا يجول وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، على دول المنطقة العربية من أجل تسوية نزاعاتٍ تعصف بها، ويستطيع تسويتها عبر مكالمة هاتفية من مكتبه في واشنطن مع زعماء هذه الدول، بل يفعل ذلك للتحضير لنزاعٍ جديدٍ يقود إلى مواجهةٍ، لا يستطيع بومبيو، أو أي مسؤول أميركي آخر، إيقافها إن تسلح بإرادةٍ صادقة لذلك. وبينما تحتاج المنطقة إلى مزيدٍ من الجهد، لتقليل التوتر الذي تعانيه، يريد القادة الأميركيون من دول المنطقة مواجهة إيران، عبر سياقٍ ظلَّ الأميركيون والإسرائيليون يخططون أكثر من عقدٍ للسير في مجراه، لكنهم على ما يبدو انكفأوا بسبب ما توقعوه من تبعاتٍ كارثيةٍ عليهم. وهي التبعات التي لا يرون غضاضةً في أن تلقى على حلفائهم الذين يتبجّحون بحمايتهم منها ذاتها.
وكان أهم ما تمخَّض عن جولة بومبيو التي استهلها بزيارة الأردن، في 9 يناير/ كانون الثاني الجاري، ثم العراق ومصر، لتشمل بعدها دول الخليج العربي الست، هدفها الذي ينحصر في السعي إلى إقامة تحالفٍ استراتيجيٍّ يجمع هذه الدول، ما عدا العراق، لمواجهة إيران، تبعاً لما تبيّن من خطابه في القاهرة. وليست الجولة سوى لتكريس فكرة ما عُرف بـ "ناتو عربي" التي تحدث عنها نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الخليج العربي، تيموثي ليندركنغ، في لقائه مع صحيفة ذا ناشيونال الإماراتية، في 26 سبتمبر/ أيلول الماضي، وقال إنه سيضم ثماني دول عربية والولايات المتحدة، وسمّاه "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي"، لمواجهة الأخطار التي تتربص بالخليج، ومصدرها الإرهاب وإيران. ومع عدم وجود شكل أو كيان 
فيزيائي للإرهاب، تبقى إيران محوراً لهذا التحالف. تحالف يراد فيه حصر ما درجت أميركا وإسرائيل، منذ سنة 2005، على تسويقه من مواجهة آتية مع إيران في الدول العربية.
لطالما ساد المنطقة توجهان متناقضان، ظهرا بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، سنة 1979، وتحديداً بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، وزيادة إيران ثقلها في لبنان. الأول تقوده إيران، ويهدف إلى إقامة تعاون بين الدول العربية وإيران، للوقوف في وجه إسرائيل. وتوجُّه آخر؛ يتحدث عن تعاونٍ إسرائيليٍّ عربيٍّ للوقوف في وجه إيران، وهو توجُّه تَعزَّز بعد إثارة أميركا وإسرائيل موضوع النووي الإيراني، وبرنامج الصواريخ الإيرانية، وضرورة ضرب البرنامجين، لما تراه واشنطن من خطرٍ يشكلانه على الدول العربية وإسرائيل على السواء.
كما أن واشنطن وإسرائيل تبادلتا الأدوار حول من منهما يمكن له أن يوجه الضربة، إذ قال نائب الرئيس الأميركي الأسبق، ديك تشيني، إن الإسرائيليين قد يوجّهون ضربة لإيران، على ضوء تصريحات إيرانية معادية لهم. وتتالى تصريحات الطرفين، الإسرائيلي والأميركي، وتتناوب بشأن ضربةٍ يحضّرون لها تستهدف البرنامجين، النووي والصاروخي، الإيرانيين. ثم صمتت هذه التصريحات لتفسح المجال للحديث عن حلفٍ عربيٍّ لمواجهة إيران. وكانت دائماً تساق سيناريوهاتٌ لرد الفعل الإيراني تحول دون الضربة. ويستمر الوضع على هذا الحال، لتصبح التصريحات الأميركية في هذا الشأن أشبه بمزامير عتيقة تلقيها واشنطن على حلفائها العرب، وتحضّرهم لضربة مقبلة، تاركة إياهم يرزحون تحت توترٍ العلاقة مع طهران والخطر الإيراني الذي لا يرون في أحد سوى أميركا معيناً لهم في ردّه.
وتفيد المعطيات بأن التوتر الذي صبغ العلاقة بين الدول العربية، خصوصاً الخليجية منها، وإيران، قد تطور إلى أن أصبح نزاعاً غير مباشر، وربما يكون قد تعدّى حالة الحرب الباردة التي كانت واقعةً بينهما، قبل ثورات الربيع العربي، وتدخُّل إيران في سورية واليمن والبحرين. وربما تحافظ العلاقة على هذا الستاتيكو الضاغط فترة طويلة، وربما لا تتطوّر العلاقة بين الطرفين إلى أبعد من ذلك، أي إلى مواجهةٍ مباشرة بينهما، بسبب المحاذير من تبعاتٍ تدميريةٍ على الطرفين، وعلى المنطقة برمّتها، وهي مواجهةٌ لا يمكن تخيُّل الشكل الذي ستصير عليه المنطقة بعد انتهائها. لذلك، ربما عاد بومبيو إلى طرح موضوع الحلف العربي، للوقوف في وجه إيران، بهدف القضاء على هذا الستاتيكو، جارّاً المنطقة إلى مواجهةٍ أو حربٍ لا يريدها أيٌّ من أطرافها، في منطقةٍ لا تتحمّل مزيداً من التصعيد.

قد يكون من الأجدى بالدول العربية التي يريد بومبيو لها الانضواء في الحلف الذي يسوِّقه، إقامة مراكز رصد لتبيُّن مصدر الخطر الحقيقي الذي يهدّد أمنها. أو حتى الموازنة بين الخطرين، الإسرائيلي والإيراني، لمعرفة أيهما الأكثر جدّيةً وراهنيةً، علاوة على استشراف ما يحمله من تهديدٍ للمنطقة في القادم من السنين. كما أنه من الأجدى البحث في تسوية بؤر النزاع الضالعة فيها إيران والدول العربية، والتي تشكل أرضُها مسرحاً لمواجهةٍ قائمةٍ بين هذين الطرفين، والمقصود هنا النزاع في سورية واليمن. إذ يمكن للتوتر الذي يسببه النزاع بين الطرفين في سورية واليمن أن يتطوّر إلى عنفٍ يسود المنطقة، ويصبح عابراً الحدود، فلا يمكن عندها السيطرة عليه، على عكس الإمكانية المتوفرة الآن.
إضافة إلى ذلك، سعى الكيان الإسرائيلي جديّاً إلى حلفٍ من هذا القبيل، يجمعه مع الدول الخليجية. وعلى الرغم من هذا السعي، وعلى الرغم من التقارب المتزايد الذي يُسجَّل بينها وبين بعض الدول العربية، لا تنفكّ إسرائيل تبتز هذه الدول. من هذه الابتزازات ما أخذت تمهِّد إسرائيل له، من مطالبةٍ بتعويضاتٍ بمئات مليارات الدولارات، متوجبة على الدول العربية لليهود العرب الذين غادروا هذه الدول إلى الكيان الإسرائيلي. ومن هنا، يأتي استغراب هذا التناقض الذي لا يمكن ردّه سوى أنه إمعان إسرائيل، كما إمعان أميركا، بطلب مزيدٍ من الرضوخ العربي الذي لا يرون في استمراره سوى نيةٍ طيبةٍ من العرب للتقرّب منهما.
ولكن، ربما لم يخطر ببال الأميركيين صعوبة إقامة تحالفٍ بين مجموعة من الدول العربية، تعاقب أربع منها دولةً خامسةً، فارضة عليها حصاراً مادياً ومعنوياً. ولم يجعل هذا الأمر الدول المحاصرة تدرك أن واشنطن لا تحفل بمشكلاتهم وبحلها، ما يهمها أن ينفذوا ما تطرحه عليهم، سواء أكان الوئام يسود بينهم، أم كانت العداوة والتوثب للانقضاض ديدنهم.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.