صمتُ السوريين... ترقّبٌ أم نأي بالنفس؟
مع كل مستجدٍّ يطرأ على الساحة السورية، تبرُز مسألة تثير الاستغراب بشأن السوريين في الداخل، إنها صمتهم حيال الحوادث التي تتوالى والتطوّرات التي تحصل بين الفينة والأخرى في المشهد السوري الراكد منذ سنوات، خصوصاً منها التطوّرات المصيرية. ولا يمكننا تبيُّن غرابة هذا الصمت إلا إذا تذكّرنا كيف كانت أي مسألة تثير العواصف الكلامية على وسائل التواصل الاجتماعي، علاوة على الانقسامات التي تعزّزها بين الموالين للنظام ومعارضيه. وبينما حملت الفترة التي تلت القمة العربية في المنامة، وشارك فيها الرئيس السوري، تطوّرات أفضت إلى تكهّنات كثيرة، تجد أن السوريين باتوا غير آبهين بهذه التطورات أو بأي توقعات، وكأنهم قد بدّلوا جلودهم فما عدتَ تعرفهم.
ولا يتوقف الأمر على وسائل التواصل الاجتماعي، فكلما حاولتَ إثارة أي موضوع عن الحوادث الجارية مع أناسٍ تلتقيهم عرضاً، أو أناسٍ عُرف عنهم اهتمامهم بالشأن العام، تجد أن الخوض في هذه المسائل لا يستغرق منهم سوى أقلّ من دقيقة ثم ينتقلون بعدها إلى مناقشة أمورٍ أخرى، قد لا تكون ضاغطة أو يجري التداول فيها. عندها تتساءل عما جرى لهؤلاء، وجعل عدم مبالاتهم تجاه أمور مصيرية تصبح من الوضوح إلى حدٍّ يثير النفور. قد لا يتقبّل أحدنا هذا الواقع، غير أن تغيُّر أمزجة الناس في هذه البلاد أمر بات مفروغاً منه. أما البحث عن جذرها فيعيدنا إلى واقعة تعيين وزير الكهرباء السابق، عماد خميس، رئيساً للحكومة السورية، سنة 2016، وهي التي أدخلت الإحباط إلى نفوس الناس، وأظهرت لهم مقدار حجمهم وضعف صوتهم وغياب دورهم. إذ بعد مطالبة جمهور المؤيدين بإقالته بسبب ما وجدوا أنها مسؤوليته عن انقطاع الكهرباء فترات طويلة خلال اليوم، وظنّوا حينها أن حجم التضحيات التي قدّموها خلال الحرب يتيح لهم أن يطالبوا بأمر كهذا، جاءت ترقيته من وزير إلى رئيس وزراء لتكون بمثابة وضع حدٍّ لظنونهم تلك. كما أتت لتكون بمثابة رسالة أفهمتهم أن لا صوت لهم ولا دور. أما هم فقد فهموا أنهم عاجزون، وليس عليهم سوى الرضوخ، وربما هي الحالة التي أدّت إلى النكوص الذي وصل إليه كثيرون من هؤلاء، ثم بدأت لديهم مسيرة البحث عن أدواتٍ للدفاع عن كياناتهم، فكان أحدها أو أهمّها الهجرة.
يبحث السوريون عن أدواتٍ للدفاع عن كياناتهم، وأحدها أو أهمّها الهجرة
بعد قمة المنامة، في 16 مايو/ أيار الماضي، بدأت تطوراتٌ تظهر، ولَّدت تكهنات وتوقعات خاض فيها محللون ومراقبون، غير أن السوريين في الداخل ظلوا على مسافةٍ من هذه التحليلات، وفضّلوا عدم الخوض فيها. من تلك التطورات ذلك الذي طرأ بعد القمة بأيام وفاجأ الجميع، ووضعه كثيرون في الصدارة، وهو إعلان الرئاسة السورية، في 21 مايو/ أيار الماضي، عن إصابة زوجة الرئيس، اسماء الأسد، باللوكيميا، واضطرارها إلى الخضوع للعلاج الذي سيتطلب منها "الابتعاد عن العمل المباشر والمشاركة بالفعاليات والأنشطة كجزء من خطة العلاج"، وفق البيان. وبينما تنطّع كثيرون لوضعه في سياقات ربما يكون خارجها، لم يبالِ سوريون كثيرون بما قيل من تحليلاتٍ، ولم يبنوا عليه ما بناه آخرون، إذ فضّلوا الصمت والالتفات إلى بؤسهم الذي يزداد مع تزايد الأزمات.
وتفاعلت التحليلات عن ذلك الموضوع وتعمّقت، ربما بسبب تزامن الإعلان عن مرض السيدة الأولى مع الإعلان بعده بأيام عن قرب افتتاح سفارة السعودية في سورية وتعيين العاهل السعودي، الملك سلمان، السفير فيصل بن سعود سفيراً للمملكة في دمشق، بعد 12 سنة من قطع العلاقات بين البلدين. وسبق هذا إعلان الطيران السوري عن استئناف رحلاته إلى الرياض والمنامة بعد توقف 12 سنة. وربط محللون هذه التطورات بالمبادرة التي أعلن عنها وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، بداية سنة 2023، وعرفت بخطّة "الخطوة مقابل الخطوة"، التي تمخض عنها اجتماعان وزرايان تشاوريان لعدة دول عربية في جدّة وعمّان في تلك الفترة، وهي الخطّة التي هدفت إلى توفير دور عربي فاعل في جهود الحل السياسي للأزمة السورية.
الهموم المعاشية جعلت السوريين يبتعدون عن الهموم الوطنية، وعن الحرب الإسرائيلية على غزّة، في وقتٍ كانوا معروفين فيه بانتسابهم للقضية الفلسطينية
إذا كان كل ما ذكر من تطوّرات في سورية لم يثر اهتمام السوريين، فلا يمكننا أن نتوقّع من أي تطوّر آخر، من قبيل الاجتماع الأمني الذي عُقد في قاعدة حميميم العسكرية، في 11 يونيو/ حزيران الجاري، بين وفدي سورية وتركيا، وكشفت عنه صحيفة تركية، أن يثير اهتمامهم. فبعد جولة أفق على بعض الصفحات المؤيدة للنظام على "فيسبوك"، والتواصل مع بعضهم، لا تجد ردود فعل لافتة عن ذلك الاجتماع، على الرغم من أهميته في تحقيق التطبيع بين البلدين، والذي يمكن أن ينقل البلاد إلى عتبة جديدة، خصوصاً بعد الإعلان عن اجتماع مماثل يعقد في بغداد لاحقاً.
ما الذي حلّ بالسوريين المعروفين بمتابعتهم آخر التطوّرات السياسية والأمنية، ليس في بلادهم فحسب، بل وفي كل بقاع الأرض، والبحث فيها وإشباعها تقليباً وتحليلاً لجلاء حقيقة أمرها؟ هل النأي بالنفس عما يجري على أرض بلادهم بات السمة التي يتّسمون بها؟ ربما يظنّ المرء أن هذا موقف المترقّب لما يمكن أن يحصل ويتمخض عما يجري، لكن المترقب عادة ما يمضي وقته بالمراقبة والتحليل للوصول إلى الرأي السديد عما يجري أمام عينيه، وهو أمرٌ توقف السوريون عن فعله.
لا يتطلب الأمر من المرء كثيراً من الجهد لإدراك كم جعلت الهموم المعاشية السوريين يبتعدون عن الهموم الوطنية، وعن الحرب الإسرائيلية على غزّة، في وقتٍ كانوا معروفين فيه بانتسابهم للقضية الفلسطينية، وبتفاعلهم الكبير مع نضالات الشعب الفلسطيني والشعوب الأخرى. وفي نظرة متأملة في الوجوه، وبعد الإصغاء الدقيق إلى الحوارات التي لا يمكن لها أن تمضي في مناقشة موضوع واحد إلى حد الإشباع، نجد أن كثيرين يبدون مخدّرين، والأخطر من ذلك يبدون مستسلمين لما هم فيه، هائمين في مسارٍ نحو مستقبل تقودهم إليه الأيام التي تتوالى، وكأنهم فوق ظهر سفينة تائهة.