داعش الدولة وداعش الفكرة

29 اغسطس 2018
+ الخط -
جرى الحديث أخيرا عما سمِّيَ "تَبخُّر" عناصر تنظيم (داعش)، بعد انهزامهم في مناطق عديدة من سورية والعراق. وسوى المعارك التي خاضها الجيش السوري مع التنظيم في الجنوب السوري، في شهر يوليو/تموز الماضي، والهجوم الإجرامي والتفجيرات التي وقعت في السويداء، وتبناها التنظيم، في الفترة نفسها، فلا أخبار يُعتدُّ بها عنه، بعدما أحدث هستيريا إعلامية، جعلت سياسيي العالم، وأجهزة إعلامه، يدخلون في نفقها. ويعزّز ظهور التنظيم وصعوده الدراماتيكي، ومن ثم تراجعه، والآن "تَبخُّر" عناصره، ما يقال عن أنه يعمل وفق أجندة يضعها مُشغِّلون. ولكن، إذا كان تراجع "داعش" مقدمة لاختفائه، المحتمل، وانهيار "دولته" بصمت، فإن هذا لا يعني أنه سيؤدي إلى انهيار "داعش الفكرة" التي تشي الوقائع بأنها ما زالت باقية في أفئدة كثيرين رأوا فيها الإسلام الحق. وفي الحالة هذه، تطرأ "داعش الفكرة"، الخطر الذي يمكن أن يبقى ماثلاً، ويتطلَّب جهداً جمعياً، ومن نوعٍ مختلف، لاجتثاثه، إن اجتُثَّت حقاً، "داعش الدولة".
ما يدفع إلى هذا الكلام هو الأنباء حول نية تنظيم داعش التحول إلى شبكةٍ سريةٍ، وهو ما أعلن عنه تقرير للجنة تابعة لمجلس الأمن، في أغسطس/آب الجاري. ربما يرى "داعش" أن التنظيم السري هو المخرج، أو الرد على فضيحة اختفائه، بعد أن ساد وقاربَ تشكيل دولةٍ، كان وَضْعُ أسسها جارياً على قدم وساق، في المناطق التي سيطر عليها من سورية والعراق. ولا بد أن التنظيم رأى في هذا المخرج استباقاً لحالة احباطٍ قد تصيب، أو ربما أصابت، مقاتليه والمتعاطفين معه، ومع فكرته، لا سيما وأنه قد تمدّد فعلياً في دولٍ كثيرة في هذا الشرق، وأنشأ خلايا نائمة في الغرب، أي أنه يمتلك الأرضية للظهور مرة أخرى.
لطالما لعب تنظيم داعش الإرهابي على فكرة الخلافة الإسلامية، من أجل وقوع سيطرة الوقع
 الطيب لدى المؤمنين بالدين الإسلامي، والحالمين منهم بعودة دولة الخلافة، المسيطرة على الذهنية الإسلامية، المتوفرة لها الأرضية الصالحة للبزوغ. ولم يكن لتلك الأرضية أن تصبح على هذه الشاكلة من التماسُك إلا بسبب غياب البدائل الذي كان وراءه تردِّي حال الدول الإسلامية، وتحكم القوى الكبرى بسياساتها وبمستقبل شعوبها، علاوة على الشروخ بين سياسات الحكومات الوطنية ومهامها المفترضة، فبدلاً من تحقيق آمال شعوبها بتنميةٍ عادلةٍ، تحولّت إلى حكوماتٍ مستبدّة، تُداري بالاستبداد عجزها، وبالتديّن عورات استبدادها، فلا يرجو المواطن فيها سوى النفاذ بجلده من قمعٍ أو تصفيةٍ أو نفي خارج البلاد.
إضافة إلى ذلك، نصَّب التنظيم أحد قادته خليفةً، ما زاد في انجذاب المناصرين وانضمامهم إلى صفوفه في القتال. وفي هذا السياق، شرَّع قوانين، ونفَّذه أحكاماً قال إنه استقاها من صلب الشريعة الإسلامية، من أجل تثبيت صورة الدولة، دولةً إسلامية. إضافة إلى ذلك، كثرت التنظيمات الإسلامية التي بايعت قائد "داعش" خليفةً على المسلمين، وهو ما كرَّس صورة دولته، دولةَ خلافةٍ، ستحكم العالم الإسلامي وتجعل الدول غير المسلمة تدفع الجزية لها.
توصل محللون أجانب إلى أن "داعش" اكتسب القوة من ضعف أعدائه. وحتى أولئك الأقوياء أكسبوا التنظيم تلك القوة الوهمية الجبارة، حين شكَّلوا تحالفاتٍ ضمت جيوش عشرات الدول، وقدروا، في القوت عينه، الوقت الذي ستتمكّن التحالفات التي شكلوها من التغلب فيه على التنظيم بعشرات السنين. وفي سياق محاربة التطرّف الإسلامي، في إطار السعي إلى محاربة تغلغل إيديولوجيا "داعش" في بعض الدول، اتخذت هذه الدول، ولا سيما العربية السعودية ومصر، سياساتٍ لإنجازه، ترافقت مع قمعٍ غير مسبوق، صادر الحريات المدنية بشكل تام، كما في حالة مصر، ما عزّز الاستبداد في هذه الدول، جاعلاً المواطن لا يجد في استبدادها فرقاً عن الاستبداد الديني الذي تمارسه "داعش".
وكلا التحالف الغربي، وبعض الدول العربية التي تسعى إلى محاربة "داعش"، لم تتنطّع لمواجهة إيديولوجيا العنف والكراهية والعنصرية التي نشرها التنظيم، وعزّزها حتى صارت محدّدة هوية مناصريه. بل إنها العقائد نفسها التي تكرّسها هذه الدول في ممارساتها في ما تدّعي أنه محاربته، أو محاربة التنظيمات المتطرّفة الأخرى. ومن المفارقات أن من بين الدول محاربي "داعش"، وهو الذي ادّعى اتخاذ الشريعة الإسلامية منهجاً، منها من تتّخذ الشريعة ذاتها مصدراً للتشريع، ولتبرير تسلط حكامها. وهي، وفي ظل حربها تلك، تمتنع عن تبنّي قوانين مدنيّة، وأكثر ما تتخذه لإكساب نظامها مسحة عصرية، السماح للمرأة بقيادة السيارة، وبعض العروض الموسيقية، وافتتاح دورٍ للسينما.
إذا اختفى "داعش"، فإنه سيبقى محتفظاً بقدرة البزوغ من رمادٍ توفِّره أنظمةٌ مستبدّةٌ مواظبةٍ 
على إخضاع مواطنيها بشتّى السبل، منها التديّن الشكلي الذي يستخدم المقدّس لتبرير استبداد السلطة. ولعل هذه الأداة هي الأخطر التي تجعل المواطنين، موضوع الاستبداد، طيِّعين، قابلين للانقياد للسلطة والخضوع لها، كما لأي مستبدٍّ آخر، ولو اتخذ شكل مستبدٍّ ديني، كما في حالة "داعش". ومن المعروف أن عنف السلطة وخذلانها مواطنيها وقهرهم بامتناعها عن تنمية احتياجاتهم هو المولِّد الرئيس للعنف المقابل، العنف الديني الذي يتولّد في نفوس المقهورين الذين سرعان ما يرون في الجماعات الدينية المتطرّفة مبتغاهم. في هذا الوقت الذي ستكون فكرة "داعش" فيه باقية، ستجد في هؤلاء الوقود السهل في إعادة ظهورها، ومن ثمّ في حروبها التي لا ترى لها نهاية.
من هنا، لا يمكن التصديق أن الحكومات التي تقاتل "داعش" تقاتله بصدق، ما دامت موغلة في استبدادها. وهي هنا بدلاً من مقاومته، توفّر له الفرصة الدائمة للحلول في قلب مجتمعاتها. وربما لذلك هي تسعى إلى تطويعه، وربما تشغيله واستخدامه في خدمة عنفها الموجه إلى مجتمعها، فلا يمكن، والأمر هذا، النظر إلى دوره سوى دور من يتبادل الخدمات مع السلطة الاستبدادية.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.