الساحرة الصغيرة

23 يونيو 2018

سعاد حسني.. امرأة أخرى أمام الكاميرا

+ الخط -
تُروى حكاية عن سعاد حسني، أنه وفي أثناء تصوير فيلم القادسية في العراق، طلب الرئيس العراقي صدام حسين رؤية طاقم الفيلم في مكتبه. وبعد ترتيب شؤون الزيارة، ذهبت برفقة مخرج الفيلم، صلاح أبو سيف، والممثل عزت العلايلي. وبعد الإجراءات الأمنية المتبعة، تم إدخالهم إلى المكتب الشخصي للرئيس، ثم بعد ربع ساعة دخل هو إلى المكتب، صافحهم فرداً فرداً، ثم سألهم: لماذا لم تأتِ معهم سعاد حسني.. ابتسمت ساندريلا الشاشة، وقالت له: "أنا أهوه يا سيادة الريس". كانت النجمة الشهيرة كثيراً ما تصادف مثل تلك الحادثة مع صدّام. ويقال إنها كانت تمشي في الشارع تضع نظارتها السوداء ولا يعرفها أحد. لم تكن مرئية، ولم يكن لها، بعيداً عن الشاشة، حضورٌ طاغٍ. كانت تبدو امرأة عادية وبسيطة، لا تلفت نظر أحد، غير أن لعلاقتها مع الشاشة شأناً آخر.
ثمّة وجوه وشخصيات ترتبط بعلاقة خاصة مع الكاميرا، سعاد حسني من هذه الشخصيات النادرة، إذ من المعتاد أن البشر يخافون من رهبة الكاميرا، يصف أحدهم الكاميرا بوحشٍ يشهر أنيابه قبل الانقضاض على فريسته، ولهذا يخشاها كثيرون، ويرتبكون أمامها ويفقدون عفويتهم وبساطتهم. يقال أيضاً إن ممثلي السينما في العالم يتلقون دروساً عن كيفية التصرف بعفوية أمام الكاميرا، للنجاة من رهبتها. نحن نسمي ذلك دروساً في التمثيل، بينما هي شيء آخر.
كانت سعاد حسني تمثل الحالة المضادة تماماً. يقول من عايشوها إنها ما أن تقف أمام الكاميرا حتى تتحول إلى امرأة أخرى، تتجلى وتتجوهر وتصبح أكثر استرخاءً وعفويةً منها خارج كادر الكاميرا. كانت تبدو كما لو أن عدسة الكاميرا عين حبيبها التي ترصد تألقها، وتعرف تماماً أماكن الجمال ومواطنه في وجهها وجسدها وروحها.. هل لهذا السبب كانت سعاد حسني مختلفةً عن غيرها من الممثلات؟ كلهن عاديات، ممثلات أمام الكاميرا. وحدها كانت لا تمثل أمام الكاميرا، بل تترك نفسها لتظهر كل الشخصيات التي فيها من دون أن تبذل أي جهد، تلك الشخصيات التي رصدتها عين خفية في الكاميرا، ووقعت في غرامها، وتفننت في إظهار بواطن الجمال والأنوثة والرقة والغنج والحزن والقهر والخوف والوجع والحب والشوق والحرمان، تلك المصادر التي تكونت منها شخصية سعاد حسني، أو بالأصح شخصياتها المتعددة.
يقيناً لا أحد يشبه سعاد حسني، لم يمر على الشاشة العربية، لا قبلها ولا بعدها ولا في وقتها، ممثلة تشبهها أو حتى تقترب منها. لم تكن ممثلة عادية، ولا يمكن القول إنها ممثلة استعراض. لم تكن خارقة الجمال مثل ناديا لطفي، ولا صاحبة أنوثة طاغية كهند رستم، ولم تكن ذات جمال ارستقراطي كليلى فوزي، أو جمال بلدي كتحية كاريوكا، لم تكن ليدي كفاتن حمامة، ولا قطة أنيقة كزبيدة ثروت. كانت، ببساطة، كل ما سبق، الساحرة التي تستطيع التحول من طفلةٍ إلى شابةٍ إلى سيدةٍ مكتملة الأنوثة، الساحرة التي تتبدل ملامحها بين البراءة والإغواء في لحظاتٍ قليلة، حتى ليحار من يتابعها أية شخصيةٍ هي، ولعل اسم ساندريلا الشاشة الذي أطلق عليها يوماً، على الرغم من ابتذال الألقاب التي أطلقت على الفنانين، إلا أن هذا الاسم ربما كان يناسبها لما فيه من دلالات، فساندريلا تتحول، بلمسة سحرية، من خادمة فقيرة إلى أميرة مبهرة الجمال والأناقة، هكذا كانت سعاد حسني أيضاً، قادرةً على تبديل شخصياتها بلمسةٍ خفيةٍ مجهولة المصدر، كما كانت فعلاً لمسة سحرية.
ربما تلك القدرة على التحول والتبدل هي ما جعل من سعاد حسني مثلاً تريد تقليده الممثلات اللواتي أتين بعدها، إذ هي الوحيدة التي رغبت كثيراتٌ أن يصبحن مثلها، من دون أن يتمكنّ من ذلك. لم يكن التمثيل جزءاً من حياتها، بل كان كل حياتها. لهذا لا يليق بها لقب ممثلة، هي سعاد حسني فقط، الأخريات ممثلات، لم تستطع أية واحدة منهن أن تحمل هذا الاسم، ولم يستطعن تقليدها، هي تماماً في قلب منطقة السهل الممتنع، حيث قلةٌ نادرةٌ يمكنها أن توجد هناك، سعاد حسني من هذه القلة النادرة.
مرت، قبل أيام، ذكرى وفاتها السابعة عشرة. لم تكن طريقة موتها، ولا ما قيل عنها، خارج سياق شخصياتها، كانت تماماً داخل تلك الشخصيات.. هل يتخيّل أحد أن سعاد حسني كانت ستشيخ، أو تجري عمليات تجميل، أو تموت ميتة طبيعية؟ّ السقوط من طابق عال بعد الخروج من مصحة نفسية في بلد أوروبي هو شخصية أخرى من شخصياتها.. من يدري، ربما نراها بعد قليل أمامنا: ساحرة صغيرة كانت تلاعب الموت لعبة الاستغماية.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.