بوتين ليس قيصرنا

15 مايو 2018
+ الخط -
كان لافتاً أن تُحوّل المعارضة الروسية احتفالات تنصيب فلاديمير بوتين رئيساً في ولايته الرابعة إلى احتجاجات غاضبة، إذ عمّت التظاهرات المناهضة له أكثر من تسعين مدينة عشية يوم التنصيب في السادس من أيار/ مايو الجاري، وهتف المتظاهرون الروس "بوتين ليس قيصرنا"، في دلالة رمزية معبرة عن تنامي مشاعر الغضب حيال إعادة انتخابه للمرة الرابعة. وتحول عيد التنصيب إلى مناسبةٍ لاتساع الحراك المعارض لنظام الحكم البوتيني، إذ بدلاً من أن تتحول المناسبة إلى عيد وطني لتنصيب قيصر روسيا الجديد، فإن أصوات آلاف المحتجين صدحت بشعاراتٍ تستهدف بوتين شخصياً، مثل "يسقط القيصر" و"بوتين يسرقنا"، و"بوتين لص"، ومطالبة بأن تكون "روسيا من دون بوتين" و"روسيا من دون فساد" و"روسيا ستكون حرّة"، وذلك في مختلف أنحاء روسيا، من ياكوتسك في أقصى شمالي شرقها، وصولاً إلى سان بطرسبرغ، مسقط رأس بوتين، وكالينينغراد على أطراف القارة الأوروبية، مروراً بكل من موسكو وفولوكالامسك ويكاتيرينورغ ونوفوسيبيرسك وكراسنويارسك وقازان وتومسك وفلاديفوستوك وسواها، محوّلة هذه المناسبة إلى يوم احتجاجي، شهد مشاركة لافتة وواسعة من قطاعات الشباب، فيما كان رد سلطات النظام البوتيني هو العنف، وتوسيع حملة الاعتقالات بين صفوف المتظاهرين، إذ طاول الاعتقال محتجين وشخصيات من المعارضة، ومنهم زعيمها ألكسي نافالني الذي كتب على "تويتر" قبل انطلاق التظاهرات: "العجوز الجبان بوتين يعتقد نفسه قيصراً، لكنه ليس قيصرنا".

وتأتي احتجاجات المعارضة رداً على الفوز بنسبة 77% من الأصوات التي نالها الرئيس فلاديمير بوتين في انتخابات 18 مارس/ آذار الماضي، الذي شهد فصلاً جديداً من فصول مهزلة الانتخابات الرئاسية الروسية، من خلال تكرار الفصل نفسه الذي حدث في نفس اليوم من العام 2012، حين عاد بوتين، بعد لعبة تبادل المناصب مع ديمتري ميدفيديف، إلى كرسي الرئاسة الذي سبق أن احتله بوتين 14 عاماً، عبر ثلاث فترات (2000 - 2004، و2004 - 2008، 2012 - 2018)، حيث اختار بوتين التحايل على الدستور الروسي بدلاً من تعديله.
وتكتسب التظاهرات الاحتجاجية أهمية خاصة، نظراً للمشاركة الواسعة لفئة الشباب فيها، وامتداد التظاهرات الاحتجاجية إلى مدن وبلدات كثيرة شاركت فيها وبفعالية، على الرغم من التدابير الأمنية المشددة، فضلاً عن نجاح المعارضة في تنظيمها أمام مرأى وسائل الإعلام العالمية، عشية تنصيب بوتين في مراسم واحتفالات، كان يمنّي النفس من خلالها بوتين لإبهار العالم، وإظهار قدرته على تنظيمها وفق مراسم تذكر بتلك المراسم القيصرية في روسيا الغابرة، والتي تولي الاهتمام والتركيز على أدق التفاصيل الشكلانية والاستعراضية.
ولعل المعارضة الروسية لم تغفر لبوتين ونظامه إجراء الانتخابات الرئاسية الروسية في غياب أي مرشح حقيقي، يمكنه منافسة بوتين، بعد أن جرت عمليات إقصاء لجميع رموز المعارضة عن حلبة المنافسة، من خلال تلفيق مختلف التهم لهم. بل ولم يسمح النظام البوتيني لأبرز رموز المعارضة، ألكسي نافالني، بترشيح نفسه، بعد أن أوعز إلى إحدى المحاكم لإصدار حكم عليه بالسجن خمس سنوات مع وقف التنفيذ، بتهمة اختلاس أموال في فترة توليه إدارة شركة حكومية، فيما سُمح في المقابل لشخصيات صورية بترشيح نفسها، كي لا تشكل منافسة حقيقية لبوتين، على الرغم من تسخيره كل إمكانات روسيا الاتحادية الإعلامية واللوجستية والسياسية من أجل دعم حملته الانتخابية.
وكشفت فصول انتخابات مارس/ آذار الماضي مشهداً جديداً من فصول مسرحية عبثية، هدفها تكريس الحكم الفردي لبوتين، بوصفه القيصر الجديد لعموم روسيا. وقد أماطت اللثام عن سعيه الحثيث إلى تجاوز فترة الثمانية عشر عاماً التي أمضاها قياصرة كثر، بل وتلك التي قضاها ليونيد بريجنيف في حكم الاتحاد السوفييتي المندثر (1964 - 1982)، والاقتراب من فترة الرئاسة التي أمضاها الديكتاتور السفاح جوزيف ستالين في حكم الاتحاد السوفييتي (1922- 1953).
وعلى الرغم من أن بوتين فاز بنسبة ساحقة في مهزلة الانتخابات الرئاسية، ومن دون أن يواجه فيها منافساً حقيقياً، إلا أنها كشفت طموحاته القيصرية الواهية التي لم يخفها منذ وصوله إلى حكم روسيا الاتحادية عام 2000، ما يؤكد ما تقوله المعارضة عن سعيه إلى البقاء في الحكم إلى الأبد، باستخدام مختلف المبررات الشكلانية "الدستورية" و"المشروعية" الزائفة.

ويطرح هذا السلوك السلطوي، الطامح بقيصرية جديدة، أسئلة كثيرة بشأن طبيعة الحكم في روسيا الاتحادية، بوصفها دولة عظمى، لكن من الدرجة الثانية، وبشأن حقيقة الديمقراطية الروسية التي ترزح تحت رحى مهزلة تبادل السلطة والنفوذ بين بوتين وأزلامه. ولعل السؤال الأهم يطاول إمكانية أن تفضي عملية تحديد الرئاسة بفترتين متتاليتين إلى تداول حقيقي للسلطة، وعمّا إذا كانت تشكل التفافاً على الديمقراطية والتعدّدية في بعض الدول، فضلاً عن أن الديمقراطية التمثيلية تتحول، في مثل هذه الحالات، إلى مجرد تمثيل شكلاني لإرادة الناس، من خلال اختصارها بلعبة الانتخابات البرلمانية والرئاسية الشكلانية، ولا تحميها القوانين والدساتير، ما يعني فقدان معناها ومبناها في ممارساتٍ سلطويةٍ كارهةٍ للتداول السلمي للسلطة، الأمر الذي يفسر استناد النظام البوتيني إلى مفهوم غامض هو "الديمقراطية السيادية" الذي تحول إلى عائق أمام حق الروس أنفسهم في العيش بحرية، وفي ممارسة الديمقراطية التي حلموا بها، فراح النظام البوتيني يشدّد من قبضته الأمنية على كل مفاصل المجتمع، ويحدّ من الحريات العامة، ويدجّن الفضاء العام، ويمسخ حراك المجتمع، ويقولب الثقافة والسياسة على مقاسه، في مقابل تمتع أركان النظام وأزلامه بمختلف الامتيازات.
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".