ظريف ونظام الملالي الوديع

31 مارس 2018
+ الخط -
أطل علينا وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، بمقال في "العربي الجديد" (نحو نموذج أمني جديد في المنطقة، 20/3/2018)، ثم أردفه بمقال آخر في موقع "الجزيرة نت" (إيران وجيرانها العرب.. ما الذي يجمعنا؟ 27/3/2018). حاول في الأول تسويق فكرة "المنطقة القوية" التي يغلفها بوداعة مخادعة، تشبه وداعة نظام الملالي الذي ينطق باسمه، "بمبدأ تأمين المصالح الجماعية، وضرورة احترامها وتعميم مبدأ الربح لكل الأطراف في المنطقة، ونبذ دوافع التفوق والنزعات التسلطية وإقصاء سائر اللاعبين". وكل هذه "المبادئ" تناقض تماماً سلوك نظام الملالي ودوره في منطقتنا العربية، عبر ما يقوم به من تفتيت وتخريب، على أساس مذهبي مقيت. وفي السياق نفسه، يذهب مقاله الثاني إلى اقتراح "هندسة إقليمية جديدة" تهدف إلى "تحقيق المصالح المشتركة لجميع دول المنطقة، بغض النظر عن الخلافات والاختلافات"، مخفياً بوداعة وظرافة هندسة التخريب الاجتماعية التي اتبعها نظام بلاده في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، ومحاولات هذا النظام تغيير التركيبة الديموغرافية في كل من هذه الدول، وتمزيق النسيج الاجتماعي المتراكب فيها منذ آلاف 
السنين، مستغلاً حالات اللااستقرار والتردي والأزمات، بهدف إشعال حروب مذهبية ما بين أبناء البلد الواحد، عبر تشكيل مليشيات مذهبية (شيعية) يستخدمها أذرعا أخطبوطية، بدعاوى زائفة، بغية تحقيق مشروع هيمنة وسيطرة، إذ حيثما نلتفت اليوم في كل من سورية والعراق ولبنان واليمن وسواها، نجد أطراف هذا الاخطبوط المهووس بمعارك الماضي الغابر تمعن في تخريب النسيج الاجتماعي والتركيبة الديموغرافية، فضلاً عن استغلالها كل الأساليب القذرة لبسط النفوذ والهيمنة، مهما كان الثمن. ويظهر ذلك جلياً في التحالف المذهبي مع نظام الاستبداد الأسدي، ودعم القوى الشيعية السياسية في كل من لبنان والعراق واليمن، التي تأسست على طائفية سياسية، تجد مرجعيتها الدينية والسياسية لدى ملالي إيران، وهي قوى شكّلها هذا النظام، أو ساهم في تقويتها وتمويلها ورعايتها، وخصوصا في لبنان والعراق وسورية.
ويسجل محمد جواد ظريف عبر مقالاته التي يبدو أنها ستتواتر في منابر عربية معينة، حالة غير مسبوقة في سلوك ساسة نظام الملالي، تعكس، من جهة أولى، محاولاته تسويق مقولات شديدة العمومية عن التعاون والأمن المشترك والمصالح المشتركة والمنطقة القوية وسوى ذلك، لكنها تعكس، من جهة ثانية، حالة الأزمة والانسداد التي وصل إليها هذا النظام، داخلياً وخارجياً.
على المستوى الداخلي، ما زال نظام الملالي يعاني من تبعات الحراك الاحتجاجي الإيراني الذي بدأ مع نهاية العام 2017، وعبّر بقوة عن رفض جماعات الشباب والشغيلة والفئات الإيرانية المسحوقة لممارسات النظام الحاكم وسياساته، وعن احتجاجه على الأزمة الاجتماعية العميقة والبطالة المقيمة. وأعلن هذا الحراك انحطاط النموذج الذي قدمه نظام، ولعب فيه على وتر المشاعر القومية واستعادة مجد بني فارس الإمبراطوري، بلبوسٍ طائفيٍّ مقيت، وأظهر مدى احتقان كتلة شعبية هائلة، مأزومة وقلقة، لم تجد أي تعبير سياسي مقنع لها، يمكنه أن يفتح لها في الفضاء أفقاً، ويمنح مشاركتها في الحياة العامة معنىً وتأثيراً، ويدمجها في نظام الملالي المستبد.
على المستوى الخارجي، أصبحت كلفة تدخلات نظام الملالي في المنطقة العربية باهظة على المواطن الإيراني، وخصوصا الحرب التي يخوضها إلى جانب الروس دفاعاً عن نظام الاستبداد الأسدي، إلى جانب نشوء مناخ إقليمي ودولي مناهض للدور الذي يقوم به نظام الملالي في المنطقة، وسعي الولايات المتحدة الأميركية إلى تعديل الاتفاق النووي، أو إلغائه، وتعزيز هذا السعي بعد تعيين كل من مايك بومبيو وزيراً للخارجية وجون بولتون مستشاراً للأمن القومي.
في ظل ذلك كله، يريد ظريف تسويق دعوى زائفة لنظام الملالي، تظهره بمظهر النظام الوديع الذي يريد "مدّ يده مجدّداً نحو جيرانه العرب"، ويعتبر ذلك خياراً استراتيجياً لهذا النظام، في حين أن خيار هذا النظام الاستراتيجي في المنطقة العربية، منذ ثورة الخميني، ينهض على مشروع إيديولوجي ديني، يتخذ تلاوين مختلفة في المنطقة، ويقف وراءه عقل سياسي يخلط بين الديني والقومي، أي ما بين العقيدة المؤولة مذهبياً، وفق فهم رجال دين متزمتين، والطموح القومي الضارب في عمق الإيديولوجيا، والتاريخ الغابر، الأمر الذي جعل منه مشروعاً جامعاً ما بين السعي إلى الهيمنة والتغيير القسري، وهادفاً إلى تحقيقهما بمختلف الوسائل، المشروعة وغير المشروعة. وبنى نظام الملالي الإيراني مشروعه على دعاوى مذهبية خادعة، لا تمت للمذهب الشيعي بصلة، ولا للدين الإسلامي، إنما تجسّدها سردية فارسية ثأرية، تضرب جذورها في الوعي السياسي الإيراني السائد الذي أنتج، منذ زمن بعيد، مشاعر وسرديات معادية للعرب، وللسنّة، لم تستوردها تشكيلات الوعي الإيراني من الوعي الغربي، لأنها نتاج سيرورة التفكير القومي الفارسي والسياسي الإيراني في القرن التاسع عشر، على الرغم من أنها كانت متأثرة بالنظريات العرقية والفاشية في الغرب الأوروبي، وتفاقمت مع وصول الملالي إلى حكم إيران، وسعيهم إلى تحقيق مشروع هيمنة وتسلط على المنطقة.
ويكشف دور نظام الملالي الحاضر بقوة في الصراع على سورية طبيعة (وتركيبة) العقل 
السياسي الإيراني السائد، المتحكم في ساسته، حيث يشير النهج الذي اتبعه هذا النظام، منذ البداية، في معاداة الثورة السورية، والدعم الهائل لنظام الاستبداد الأسدي، قرين نظامهم في النهج والممارسة والتوجهات، إلى حجم التورط والتورّم الذي أصابه، إذ لم يتوان نظام الملالي عن زجّ مختلف أنواع المليشيات المذهبية، بدءاً من حزب الله اللبناني، ومروراً بالمليشيات العراقية، "أبو الفضل العباس" و"النجباء" و"عصائب الحق"، وصولاً إلى المليشيات الأفغانية، "فاطميون" و"زينبيون" وسواهما، فضلاً عن زجّ وحدات عديدة من الجيش الإيراني والمستشارين وضباط الحرس الثوري في الحرب ضد غالبية السوريين، يتقدمهم الجنرال قاسم سليماني.
ولعل الأجدى بنظام الملالي الإيراني أن يحسب بدقة ارتدادات تدخلاته الهدامة وإرهاصاتها في المنطقة العربية، وأن يصرف مليارات الدولارات المهدورة لتلبية احتياجات حياة الناس في إيران. واقتصاد إيران أولى بتلك الأموال، وخصوصا أن عامة الإيرانيين ترزح تحت وطأة فساد مافيات وتسلطها، وممارسات نظام مارق، استمرأ مقارعة الكبار، كي يستكبر على شعبه، وعلى السوريين وعموم العرب، وراح يتفاخر بالصواريخ البالستية والأنياب النووية التي يطمح إلى امتلاكها على حساب إفقار غالبية الإيرانيين، بعد أن أفقر حياتهم السياسية، وصادر فضاءهم العام، لصالح إطلاقية ثيوقراطية، تسودها سطوة ما يقرّره الولي الفقيه، لصالح تحكم الملالي بمقدرات الشعوب الإيرانية وقدراتها.
والسؤال المطروح هو: بعد كل ما فعله نظام الملالي من تخريب وتدمير في منطقتنا العربية، هل يمكن لظريف أو سواه أن يصورا هذا النظام بمظهر الجار الوديع؟
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".