الطريق العربي نحو الديمقراطية

08 فبراير 2018
+ الخط -
قد لا نكون مجازفين، إذا ما اعتبرنا أن كثيراً من مظاهر الصراع السياسي، المتواصلة اليوم في بلدان عربية  عديدة، لها صلة مباشرة بأفق التحديث السياسي، حيث يجري تهييء الشروط المناسبة، لتعبيد الطريق العربي نحو الديمقراطية. نتأكد من هذا الأمر، عندما نكون مقتنعين بأنه لا توجد طريق واحدة للإصلاح الديمقراطي، بل تتعدّد الطرق بِتَعَدُّد المجتمعات البشرية، وتَعَدُّد ثقافاتها ومساراتها التاريخية. وضمن هذا الأفق، نتصوَّر أن انفجارات 2011 تندرج ضمن الملامح العامة لهذا الطريق، حيث نشأت معارك مُستهدِفةً بناء آليات جديدة في مواجهة مختلف صور الاستبداد والفساد القائمة في مجتمعاتنا.
وإذا كان مؤكداً أن المجتمعات العربية عرفت، في السنوات الأخيرة، مظاهر كثيرة تكشف وجود انكفاءات وتراجعات في الطريق الْمُوصِل إلى أبواب المشروع الديمقراطي، فإن هذا الأمر يكشف صعوبة المعارك القائمة في مجتمعاتنا، حيث تواصل لوبيات الفساد البحث عن منافذ جديدة، لإحكام هيمنتها مجدّداً على مختلف ما جرى ويجري في مجتمعاتنا، بهدف نزع آليات المبادرة التاريخية التي ولَّدَتْهَا حركية الانفجارات المذكورة.
تُنْبِئ المعارك السياسية والثقافية المتواصلة اليوم في مجتمعاتنا بأننا ننخرط فعلاً في دروب تَلَمُّس الطريق المُوصِل إلى الديمقراطية، والمُوصِل أيضاً، إلى ترسيخ ما يُسْعِف بِتَمَلُّك دعائم التحديث السياسي، باعتبارها الأرضية المناسِبة لتوطين القِيم المذكورة في مجتمعاتنا.
يتحدث كثيرون اليوم عن أشكالٍ من الانحسار الحاصلة في مجال تَّمَلُّك الديمقراطية، واستيعاب 
قِيَمِها في العالم أجمع، سواء في المجتمعات التي تملك رصيداً تاريخياً هائلاً، من أنماط الوعي والعمل السياسي الديمقراطي، أو في المجتمعات التي ما فَتِئَت تتطلع إلى بناء أُسُس الديمقراطية في مجتمعاتها. ونحن نتصوَّر أن صُور الانحسار أو التراجع التي يتم تداولها في الدوائر القريبة من مجال الفكر السياسي المعاصِر، يمكن أن تُفْهَم، أولاً وقبل كل شيء، باعتبارها جزءاً من الآليات الذاتية للديمقراطية، وهي تُواكِب تطوُّرها، مآزقها، كما تُواكِب مقتضيات التطوُّر العالمي لأنظمة السياسة، وما ينتح عنه من آثار، تساهم بصوَر متعدِّدة في خلخلة مبادئ العمل السياسي، حيث تتبارَى الآراء والمواقف بأشكال مختلفةٍ داخل المجتمع، وبصورةٍ لم تعهدها المجتمعات البشرية في الماضي، الأمر الذي يُولِّد، كما أشرنا، مآزق وامتحاناتٍ تحتاج لبناء معطيات جديدة، للتمكُّن من استيعاب مقتضيات التحوُّل ومتطلباته، كما تتطلب تطوير آلياتٍ وإجراءاتٍ قادرة على التلاؤم مع شروط عالم جديد.
نقرأ التحوُّلات الجارية في مجتمعاتنا، وداخل مشهدنا السياسي في مجتمعات عربية كثيرة، ضمن أفقٍ نتصوَّر أنه يتجه إلى رسم المعالم الكبرى لطريقٍ عربيٍّ نحو الديمقراطية. ونُنَبِّه هنا إلى أن حديثنا عن الطريق العربي نحو بناء آليات العمل الديمقراطي وترسيخها لا يروم الدفاع عن خصوصيةٍ تمنحنا امتيازاً معيناً، ذلك أن طريقنا يُعَدُّ، في البداية والنهاية، جزءاً من تاريخٍ خاص مرتبط بمكاسب التاريخ العام، حيث تساهم روافد التاريخ المتنوِّعة والمتطوِّرة، في باب التحديث السياسي في تغذية الفضاء التاريخي العربي، بهدف تقوية مختلف المبادئ والقيم التي تتفاعل مع البيئة الناظمة لروح العمل الديمقراطي وآلياته المتعدِّدة، داخل المجتمعات الإنسانية، وطوال الأزمنة المعاصرة.
لا يمكن فصل المعارك السياسية الجارية اليوم في مجتمعاتنا عن روح تطوير آليات العمل الديمقراطي، في ضوء الأسئلة الجديدة التي ترتبط اليوم أكثر من أي وقت مضى، بعالم جديد، تلعب فيه الطَّفْرة التقنية ونتائجها في مجال التواصُل، أدواراً لم تكن معروفةً في نهاية القرن الماضي، حيث تنقلنا تحوُّلات القيم المرتبطة بعالمٍ أصبح يتطور بإيقاعٍ غير مسبوق، إلى فضاءاتٍ يختلط فيها الواقعي بالافتراضي، فنصبح سجناء مواقف ومواقع تختلط فيها الحدود والتصوُّرات.
تكشف المعارك المذكورة عسر التحوُّلات الجارية وصعوبتها، كما تكشف أن الممانعة التاريخية 
التي تمارسها أعباء التاريخ التي شكَّلت، في الماضي، جوانب من هوّيتنا، كما نشأت وما فتئت تنشأ وُيعاد تشكُّلها في التاريخ، يقتضي مّنا العمل المتواصل، في اتجاه ابتكار أساليب جديدة في الفكر وفي الممارسة، لمواصلة توطين مبادئ التفكير والعمل الديمقراطي في حاضرنا.
تخوض المجتمعات العربية منذ عقود معارك التحديث، وهي تبني مكاسب، كما تحصل فيها انتكاسات. إنها تخوض معارك في الفكر والتربية وفي السياسة والمجتمع والتاريخ. صحيح أن مشروع التحديث السياسي، يشَكِّل البؤرة الناظمة والجامعة لأسئلة اللحظة التاريخية الراهنة في مجتمعنا، إلاَّ أن هذا لا ينفي، أو يَقِّلص، من تمظهرات الوعي الحداثي الأخرى، المرتبطة بمجالاتٍ مجتمعيةٍ أو معرفيةٍ أخرى داخل المجتمعات العربية.
معالجة موضوعات التحديث، الدمقرطة، التنوير، المأسسة، العقلنة، التحرر، التواصل، التنمية، الشفافية، وهي المفردات التي تعبر عن روح الفعل الحداثي في التاريخ المعاصر، يمنح الموضوع مشروعيته التاريخية. وتزداد أهمية هذه المسألة، عندما نعرف أن مضامين الحداثة في التاريخ كانت وما تزال مشروعاً مفتوحاً، يتوخّى باستمرار ابتكار إجراءات جديدة، تسعف ببناء سياسات أفضل لمتطلبات الحياة.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".