فرنسا بين انتفاضتين

12 ديسمبر 2018
+ الخط -
بعد خمسة عقود عريضة، شهد فيها العالم تحولات شتى، تستعيد انتفاضة باريس الماثلة روح انتفاضة أيار/ مايو 1968 في دعوتها إلى تغييرٍ قصرت عن تحقيقه الانتفاضة السالفة لسبب أو آخر، ففي انتفاضة أيار، تجسدت هواجس الشباب الذين قيدت قوانين الجمهورية الخامسة حرياتهم في التعبير والتغيير، وبدا لهم تجنيدهم في حروب المستعمرات سلبا لحقهم في الحياة والعيش في سلام وأمن، ومثلت صيحاتهم في ساحات باريس تصميما على تحطيم القيود التي فرضت عليهم، "لنترك العالم القديم وراءنا" و"لا أطلب حريتي منك، سوف أنتزعها بنفسي". وقد انضم بسرعة إلى الانتفاضة عمال وفلاحون ومثقفون ونساء، لكن سعي بعض المتطرفين إلى اختطاف الانتفاضة، وتصعيد مطالبها في الدعوة إلى تغيير النظام القائم وإعطاء السلطة لممثلي الطبقة العاملة ترافقت مع فوضى وأحداث عنف وأعمال تخريب، أحدثت انقسامات وشروخا في بنية الانتفاضة نفسها، لكنها أتاحت الفرصة لديغول لكي يؤكد حضوره اللافت في استجابته لبعض المطالب، وفي مبادرته حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، "أتيت كي أنقذ فرنسا  من الأوهام التي كانت ستدفعها كي تكون فرنسا". وبتعبير أندريه مالرو المفكر اللصيق بديغول "وضع ديغول فرنسا محل الحكومة"، وقد أصاب في ذلك، بعد عام فقط، تغير الرأي العام، خذل الناس ديغول في استفتاء تطبيق نظام اللامركزية، ولذلك انسحب من المشهد بهدوء.
مر زمان نسي فيه الناس ديغول، ولم يعودوا في وارد ذكر الانتفاضة، فقد كبر شخوصها، ونالت منهم الشيخوخة، وقد أيقن بعضهم أنه حقق شيئا لفرنسا، وعلى الآخرين إكمال الشوط، فيما رأى بعض آخر أن الانتفاضة توقفت في حينها، وقصرت عن تحقيق أهدافها، وكان عليها أن تتواصل. وعلى الرغم من أنها أثمرت حراكا على صعيد الفكر، وأسقطت القوالب الجاهزة والأيديولوجيات الشمولية، وفتحت الباب أمام آفاق ما بعد الحداثة، إلا أن كتبة التاريخ اكتشفوا في الانتفاضة كومةً من الحقائق، وكومة من الأوهام أيضا، واختصموا في ما بينهم في القول الفصل!

أخذت انتفاضة هذه الأيام بعض مشاهد سالفتها، واختلفت عنها في بعض التفاصيل، ففي صبحية تشرينية باردة، استيقظت فرنسا على وقع صيحات حارة، "قبل أن تشغلنا نهاية العالم تشغلنا نهاية الشهر"، صرخة رفض مطلق لحال التهميش والإهمال التي يعيشها سكان مدن الأطراف التي يتكدسون فيها بعضهم فوق بعض. الصيحات حملت مطالب، لا لزيادة ضريبة الوقود، حل مشكلة السكن، العودة إلى تقاعد الستين، توفير مقاعد كافية للطلبة، رفع سقف الأجور والمرتبات. هنا بدا كما لو أن انتفاضة أيار تستعيد زخمها وحيويتها، من خلال هبة أهل "السترات الصفر" الذين لم يركنوا إلى مرجعية سياسية، وليس في أذهانهم مشروع لحركة جديدة أو حزب. كانوا خليطا من أناس مختلفين في التوجهات والأفكار والمشارب، متفقين في السخط والنقمة والحماس لتغيير العالم المحيط بهم، لم تكن حياتهم اليومية تسير على نحوٍ يرضيهم، ويضمن لأبنائهم وأحفادهم حياة أفضل، هذا هو كل ما كانوا يفكّرون فيه، وقد أدركوا أن مفتاح التغيير هو في يد الطبقة السياسية التي تحكمهم، والتي تنتهج سياساتٍ اقتصادية واجتماعية، تلحق الضرر بهم، وكان لا بد من التحرّك، وقف عامل في شركة "رينو" ليصرخ في وجه الرئيس ماكرون، عند زيارته الشركة "أنت غير مرحب بك هنا، بزيادتك أسعار الوقود أخذت بيدك اليمنى ما منحتنا إياه باليسرى!". وفي موقع آخر، قال أحد رجال الأمن له "أنا متضرّر من زيادة الضرائب، لكنني أقوم بواجبي كشرطي في مواجهة المحتجين، يرافقني شعور بالعار، لأنني أقمع أناسا خرجوا للدفاع عن حقي"!
اختار الرئيس أن يغيب عن المشهد في البداية، تاركا لمساعديه أن يتصرّفوا، لكنه بعد تصاعد أعمال العنف شعر أن ثمة أمرا جللا يخص فرنسا، ويخصه هو بالذات قد يحدث، وعليه أن يفعل شيئا. حاول أن يلوي عنق الانتفاضة باستخدام القوة، ثم سعى إلى احتوائها وتهدئة غضب المحتجين، عبر الاستجابة لبعض مطالبهم، لكنه أخفق في أن "يضع فرنسا محل الحكومة" كما فعل ديغول. جاءت قراراته متأخرة، فقد تغير الظرف، ولم تعد المعطيات هي نفسها. أخيرا جرّب أن يسترضي المتظاهرين، لكن الصرخات لاحقته: "ماكرون اترك السلطة". قد لا يستجيب ماكرون لهذه الصرخات، لكن ما يمكن قوله بيقين: فرنسا تغيرت، وقد تلحق بها باقي أوروبا.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"