هل من سبيل لمعارضةٍ علمانيةٍ في سورية؟

31 يوليو 2017
+ الخط -
لم تشكل المعارضة العلمانية في سورية تهديداً لوجود نظام الأسد في أي وقت من تاريخها النضالي، ودرب آلامها الحافل بالتعذيب (حتى الموت أحياناً)، والسجن الذي لا ينتهي، والتضييق على لقمة العيش، والحرمان من أبسط الحقوق. كان تهديد النظام يأتي دائماً من جهة إسلامية، حتى أن السياسة الأمنية للنظام تجاه معارضيه العلمانيين لا تُفهم إلا بدلالة صراعه ضد الخطر الإسلامي الممكن، والذي كان وحده ما يشكل الهاجس الأمني للنظام.
يعود بطش نظام الأسد بمعارضيه العلمانيين إلى عاملين، ليس بينهما الخوف من قدرتهم على إسقاط النظام، الأول رغبته في أن تبقى الأقليات المذهبية بعيدةً عن التأطير السياسي المعارض. يدرك النظام أن العلمانيين يتغلغلون جيداً في الأقليات المذهبية، فيما يقف الإسلام السياسي على حدودها، نظراً إلى بنيته التنظيمية والفكرية الطائفية. الغرض من قمع المعارضين العلمانيين إذن ضمان ولاء الأقليات المذهبية بتطهيرها من النزعات المعارضة، على اعتبار أن هذه الأقليات ترفض الإسلاميين بداهة، ولن تقبل بهم إلا مكرهةً، فهي تشكّل، والحال هذه، ركيزةً مضمونة للنظام، حين يواجه تحدياً إسلامياً.
قد يبدو مخالفاً لهذا القول إقدام نظام الأسد، في أوائل فبراير/ شباط 1980، مع اشتداد تهديد "الإخوان المسلمين" على النظام في حينها، على الإفراج عن المعتقلين الشيوعيين لديه دفعة واحدة، حتى من كان منهم في مرحلة التحقيق، بحركة فيها استعراضٌ، ورغبةٌ واضحة في لفت النظر. شمل ذلك الإفراج أكثر من مائة معتقل من مختلف مناطق سورية، جميعهم من رابطة العمل الشيوعي، باستثناء اثنين من الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي. لكن هذه الخطوة كانت في حقيقتها جزءاً من معركة النظام ضد الإسلاميين. فهي تنطوي على رسالة تهديدٍ بانفتاح يساري، موجهةٍ إلى الدول الخليجية الداعمة للإخوان المسلمين حينها، ورسالة إغاظة إلى إسلاميي الداخل الذين يروق لهم أن يروا العلمانيين في السجون، ولو على يد نظام يريدون إسقاطه. فضلاً عن أمله في حشد اليسار السوري مع النظام ضد "الإخوان"، وحين لم يحصل النظام على النتيجة المرجوّة من خطوته، عاد سريعاً إلى اعتقال من أفرج عنهم وملاحقتهم، ولم يكرّر هذه الخطوة لاحقاً.
العامل الثاني، توجيه رسالة ود وتطمين إلى الأنظمة الخليجية الإسلامية التي حرص نظام
الأسد دائماً على كسب دعمها، رسالة تقول إن النظام "عادلٌ" في قمعه، فهو يضرب اليمين واليسار، الإسلاميين والعلمانيين معاً. وفيها رسالة استرضاء للإسلاميين السوريين أيضاً، تقول إن النظام يحمي المجتمع المسلم، ولا يتساهل مع العلمانيين "المتطرّفين".
ضاعت دائماً تضحيات المعارضين العلمانيين في الهوة القاتلة بين قمع النظام والخيار الإسلامي المتربّص. لم يحقق نضالهم أي تراكم مؤثر في سياق مسعى المجتمع السوري إلى الخروج من وهدة الاستبداد والانحطاط السياسي. وعلى الرغم من أن المطلب الديموقراطي يشكل مضمون الحركة الشعبية ضد نظام الأسد، لم يتمتع الديموقراطيون العلمانيون بأي أفضليةٍ في لحظات احتدام الصراع. كل احتدام للصراع مع النظام سوف ينقلب، كما لو بقانون، ليتخذ طابعا استقطابيا محدّدا، طرفاه النظام والإسلاميون. المفارقة السورية الثابتة: الديموقراطيون في الصفوف الخلفية من قيادة حراكٍ ديموقراطي في مضمونه، فيما تتصدّر تشكيلات إسلامية مضادّة للديموقراطية هذا الحراك.
إذا كان من السهل تفسير هذه المفارقة، فإن من العسير الخروج من أسرها. إنها مفارقة معلقة فوق رؤوس السوريين كأنها قدرٌ لا فكاك منه، ما أن ينهضوا للتغيير، وبمقدار ما يحتدم الصراع.
ماذا يمكن أن يفعل الديموقراطيون العلمانيون أمام هذه الحال؟ ما المخرج إذا كان تاريخ كامل من المعارضة الديموقراطية العلمانية لنظام الأسد يضمحل ويذوي، ويغدو بلا قيمةٍ أمام تشكيلٍ جهادي وليد؟ ما العمل إذا كانت القوة العسكرية لمثل هذا التشكيل، وما يقدّمه من مآثر قتالية ضد نظام ظالم وفاسد ومكروه، تجعل الناس معجبين، وأكثر ميلاً إلى سماع خطاب "شرعييه" ومنطقهم، من سماع خطاب ديموقراطيين علمانيين، عاجزين عن فعل شيء سوى الكلام. هذا فضلاً عن أن "الشرعيين" المسموعين يصدّون الناس عن هؤلاء العلمانيين بوصفهم كفاراً.
إذا شاء أن يحرز العلمانيون تقدماً، وأن يكون لهم تأثير وفاعلية في مجرى الصراع السياسي في سورية، عليهم التوفيق بين قدراتهم ومطالبهم، أن يدركوا أن الاستيلاء على السلطة بالعنف ليس في مقدورهم، وأن العنف سبيل مفتوح لسيطرة الإسلاميين، ولإحباط كل التطلعات العلمانية في المجتمع.
يمكن للديموقراطيين العلمانيين السوريين أن يكونوا قادة حركة تغيير سلمي متعدّدة الأشكال،
وهم وحدهم القادرون أن يخرجوا بمجتمعهم من وهدة الاستقطاب العقيم والمدمر بين النظام والإسلاميين. كان واضحاً التناسب الطردي بين مستوى الحضور العلماني السوري في الثورة ومستوى السلمية فيها. ولكيلا يكون سبيل التغيير السلمي مغلقاً بقوة القمع العاري اللامحدود الذي يواجه به النظام متحدّينه، على العلمانيين أن يركّزوا على النضال المطلبي المتدرج، وهذا يقتضي تشكيلاتٍ تنظيميةً غير حزبية، بمعنى أنها لا تتطلع إلى السلطة، وتعتبرها نقطة البداية.
ربما شكّل حراك الريف في المغرب نموذجاً للتأمل، من حيث سلميته، والحرص على حماية سلمية الحراك، بمنع أعمال التخريب في الممتلكات، ومن حيث بساطة المطالب، وابتعادها عن السياسة، وملموسيتها ومعقوليتها، مثل بناء جامعة ومستشفى متخصص، وفرص عمل للشباب. وبالطبع، من حيث المثابرة والثبات وابتكار أشكال الاحتجاج بطريقةٍ تسمح بتخفيف وطأة القمع والحد من خسائر الحراك. وقد سبق أن أبدع السوريون في هذا الباب، ولكن ليس في سياق مطلبي أو سياسي محدود، بل في سياق أقصى صراع سياسي، يمكن لنظام أن يواجهه، صراع إسقاط النظام.
لا يبدو أن أمام العلمانيين في سورية، وفي البلدان المشابهة، من طريقٍ سوى البناء الصبور من الأسفل، بعد أن أثبتت التجربة الحية في بضع السنوات الأخيرة أن مقولة "كل شيء يبدأ من السلطة السياسية"، هي باب ليس فقط للفشل والنكوص، بل وللدمار العام أيضاً.
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.