دلالات في التشريعيات الفرنسية

17 يونيو 2017

اقتراع في الانتخابات التشريعية بباريس (11/6/2017/Getty)

+ الخط -
محتمل جداً أن تبقى تشريعيات 2017 حدثاً نادراً في حوليات الانتخابات عموماً، والتشريعيات خصوصاً، في فرنسا، بالنظر لمفاجآت نتائجها ودلالاتها. ذلك أن حركةً ظهرت منذ سنة فقط على وشك الفوز بالأغلبية المطلقة من المقاعد في الجمعية الوطنية (الغرفة السفلى للبرلمان) مقصيةً بذلك الحزبين التقليديين، اليميني الجمهوري والاشتراكي. إنها صفعة سياسية بكل المقاييس. حيث حصلت حركة "إلى الأمام" في الدور الأول، يوم 11 يونيو/ حزيران الجاري، على 28،21% من أصوات الناخبين في الدور الأول، بينما فازت حليفتها الحركة الديمقراطية (يمين وسط) على 4،12%، ليصل رصيدهما إلى 32،33% من أصوات الناخبين.
بحكم نظام الأغلبية بدورين، المعمول به في النظام الفرنسي، تسمح لهما هذه النسبة المعتبرة من الأصوات بالفوز بالأغلبية المطلقة. وبذلك، يتقدّمان بنسبة كبيرة على الكتلة اليمينية، المتمثلة في حزب الجمهوريين (يمين جمهوري) وحزب اتحاد الديمقراطيين الأحرار (يمين وسط)، وقد حاز الجمهوريون على 15،77%، التي حصلت على 21،65% من الأصوات، وعلى الجبهة الوطنية (يمين متطرّف) التي حازت على 13،20%، وفرنسا الأبية (يسار متطرّف) على 11،03% والحزب الاشتراكي على 7،44% والخضر على 4،30 من الأصوات... وتفيد توقعات استطلاعات الرأي بأن حركة الرئيس إيمانويل ماكرون، إلى الأمام، ستحوز على مابين 415 و455 (من أصل 577) مقعداً في الجمعية الوطنية، والكتلة اليمينية الجمهورية على 70 إلى 100 مقعد، واليسار الحكومي (الحزب الاشتراكي والخضر...) على 20 إلى 30 مقعداً، وفرنسا الأبية وحليفها الحزب الشيوعي بين 8 و23 مقعداً، والجبهة الوطنية من مقعد إلى 12 مقعداً... فيما بلغت نسبة المشاركة 48،70% فقط. ولكل هذا دلالات سياسية قوية.
الدلالة الأولى نهاية عهد القطبية الحزبية في فرنسا؛ نهاية كارثية للحزبين، الاشتراكي واليميني 
الجمهوري. فبعد أن تداولا على السلطة عقوداً من دون منافس، قذفت بهما إلى خارج السلطة بشكل غير متوقع حركة جديدة. إنها نقلة نوعية في تاريخ السياسية الفرنسية التي هُيكلت على أساس منظومةٍ حزبيةٍ قويةٍ لا تدع أي مجال للقوى السياسية غير المهيكلة حزبياً للتعبير عن نفسها، ناهيك عن الوصول إلى الحكم. وفي ظرف قياسي، خسر الحزبان نسبة معتبرة من ناخبيهم الذين فضّل قسم منهم عدم المشاركة في الاقتراع، فيما فضّل قسم آخر التصويت لصالح مرشحي حركة الرئيس ماكرون. لتأتي الهزيمة النكراء، الأولى من نوعها في التاريخ، على يد حركةٍ عمرها حوالى سنة. تمكّنت هذه الحركة من تشكيل قوة سياسية وسطية، تتوسط اليمين واليسار الحكوميين، تستلهم من الأول التوجهات الليبرالية ومن الثاني التوجهات الاجتماعية.
الدلالة الثانية انحسار مد الطيفين المتطرّفين اليميني واليساري. يتمثل الأول في الجبهة الوطنية التي نجحت مرشحتها في اجتياز الدور الأول من الرئاسيات، لكن ذلك لم يُحدث دينامية تجعلها تحوز على عدد معتبر من المقاعد. إذ تفيد الأرقام بتراجع كبير للجبهة الوطنية التي فقدت أكثر من خمسة ملايين من الناخبين بين الدورين، الثاني من الرئاسيات والأول من التشريعيات. بمعنى أنه عكس حركة إلى الأمام التي استغلت دينامية الرئاسيات لتحقيق فوز كاسح في التشريعيات، فشلت الجبهة الوطنية في الحفاظ على قدرتها التعبوية. ما يعني أن الصراعات الداخلية عقب الهزيمة في الرئاسيات أثرت أيضاً على أدائها. مع العلم أن اليمين المتطرّف يواجه دائماً صعوباتٍ في اختراق الانتخابات التشريعية. أما حركة فرنسا الأبية فتوجد تقريباً في الوضع نفسه، وإن كانت في أحسن حال من الجبهة الوطنية. إذ تشير الأرقام إلى حصولها على عدد أكبر من المقاعد، ما يعني أنها حافظت، بعض الشيء، على ديناميتها الرئاسية، على الرغم من احتلالها المرتبة الرابعة في دورها الأول. لكن، يبقى أنها لم تفلح في تعبئة الناخبين.
أما عزوف الشعب الفرنسي عن الانتخابات التشريعية فهو الدلالة الأخطر سياسياً، لأنها تضع
الديمقراطية على المحك، وتحد من شرعية الهيئات المنتخبة، فأول حزب في فرنسا اليوم هو حزب الممتنعين عن التصويت، وهو صاحب الأغلبية في أوساط الناخبين الفرنسيين. حيث بلغت نسبة الممتنعين عن التصويت 51،30%، وهي الأعلى في تاريخ الشريعيات الفرنسية. تعد هذه النسبة الضعيفة من المشاركة في الانتخابات هزيمةً للطبقة السياسية الفرنسية التي عجزت على إقناع الناخبين الذين عيل صبرهم من الوعود المتراكمة التي لم يتحقق منها شيء يذكر، فضلاً عن الفضائح السياسية والمالية، المتراكمة هي الأخرى في السنوات الأخيرة، والتي زادت الهوة عمقاً بين الطبقة السياسية والشعب. صحيحٌ أن الشعب الفرنسي شارك، على عادته، بنسبةٍ معتبرة في الرئاسيات، لكنه كعادته أيضاً يولي الرئاسيات اهتماماً خاصاً، على عكس الانتخابات الأخرى.
وبالتالي، فالحديث عن الدينامية التي تخلقها عادة الرئاسيات، وتسمح للرئيس المنتخب بالحصول على أغلبيةٍ في البرلمان، تبقى نسبيةً بعض الشيء، ذلك أنها لم تفلح في إقناع الفرنسيين بالمشاركة بقوة في هذه التشريعيات. ومن ثم، فإن الفوز الساحق لحركة الرئيس المنتخب تقابله نسبة مشاركة ضعيفة، ما يهز من شرعية البرلمان الجديد المنتخب. لكن هذا الفشل جماعي، ولا يحسب على حركة الرئيس الجديد دون سواها، لأن المعارضة، بمختلف أطيافها، فشلت في إقناع الناخبين في المشاركة في الاقتراع، بل إن السواد الأعظم ممن امتنعوا عن التصويت هم من ناخبي الأحزاب الأخرى، وليس من ناخبي حركة الرئيس الجديد.