01 فبراير 2019
حراك الحسيمة.. تحول عميق
بعيدا عمّا يُنتجه التناول الإعلامي من تركيز الأضواء على الأشخاص والزعامات، فإن ديناميكية "الحَراك" الاجتماعي في مدينة الحسيمة في شمال المغرب هي في الواقع تركيب لجيلين من أجيال الحركات الاحتجاجية: جيل الحركات الاحتجاجية المتعلقة بالمطالب المادية ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية، وجيل الحركات الاحتجاجية الجديدة ما بعد المادية، حيث تحضر المطالب الرمزية والهوياتية.
يرتبط الجيل الأول بعودة المسألة الاجتماعية، فيما يرتبط الثاني بانبثاق ظاهرة القدرة التعبوية للقضايا الثقافية والهوياتية.
سمح التركيب بين الجيلين بمنح المطالب الاجتماعية والاقتصادية وعاءً ثقافيا مشتركا، كما منح هذه المطالب قدرةً تعبويةً قوية باستثمارها خطاب الانتماء الجماعي إلى مجال جغرافي ولغوي، تحيط به سرديةٌ مليئة بكثافة من الرموز التاريخية (عبد الكريم الخطابي) وعلامات الاصطدام مع السلطة المركزية (1948- 1958)، ومخيال جمعي جريح، حيث لم تسمح الخطوات المهمة للمصالحة، كما دشنها عهد الملك محمد السادس، بتجاوز الندوب العميقة للماضي.
في التفاصيل، توفرت للحركة الاحتجاجية شروط حالة مدرسية: حدث تأسيسي قوي قادر على التأطير وإيجاد المعنى السياسي والشحنة العاطفية (وفاة مؤلمة للشاب بائع السمك محسن فكري)، بحمولة استثنائية، تعيد التذكير بكل سردية التهميش و"الحكرة". قيادة شعبية أنتجت الخطاب المطابق للحالة الاحتجاجية، بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع مرجعياته وتركيبته (ظاهرة ناصر الزفزافي).
في التحقيب، يبدو هذا "الحَراك" منخرطا في لحظة ما بعد الانفجارات الحضرية الكبرى (1965/ 1980/ 1984 /1990)، والمتميزة بالاحتجاجات التي عرفتها مدن مغربية صغيرة ومتوسطة انطلاقا من العام 2005 (صفرو، سيدي إفني، تازة...)، على أنه يظل مختلفا في: امتداده الزمني، وقدرته على نقل "العدوى المجالية" في محيطه الإقليمي، وطبيعة قيادته الميدانية، وحجمه الجماهيري.
لذلك كله، تبقى هذه الديناميكية الاحتجاجية أقرب في الواقع إلى روح حركة 20 فبراير، ذلك أنها من أعادت، مرة أخرى، التأكيد على حقيقة سوسيولوجية وسياسية تنتمي إلى "الاتجاهات الثقيلة" التي تخترق المجتمع المغربي، والتي تتعلق بترسخ عقيدة المساءلة لدى قطاعاتٍ واسعة منه، وتحرّره من هواجس الخوف.
هذه التحولات المجتمعية التي فرضت تصاعدا في ثقافة ديمقراطية الرأي (الاحتجاج على البيدوفيل الإسباني، وقائع الاحتجاج عبر وسائط التواصل على الوزراء الذين ارتبطوا بفضائح..)، وانفلاتا شبه نهائي للمدن من استراتيجيات التحكم الانتخابي (سبتمبر/ أيلول 2015، أكتوبر/ تشرين الأول 2016).
كل هذه الاستطرادات ضرورية للقول إن ما يقع في الحسيمة ليس أثرا لزعامة احتجاجية فردية استثنائية، ولا هو انفلاتٌ عابر في علاقة السلطة بالمجتمع، سرعان ما سينتهي بمقاربة أمنية تقليدية.
ما يقع هو تحوّل عميق في تمثل المجتمع المغربي لذاته وللدولة.
ما يقع يعني، كذلك، أزمة كبرى في الوساطة المجتمعية، بقنواتها الحزبية والنقابية والمدنية، وبنخبها ومثقفيها، تجعل استراتيجية الشارع خيارا مركزيا لدى المجتمع، وتجعلنا أمام خطاب "خام"، لم يتعرّض لآثار "العقلنة" داخل مؤسسات التأطير وتدوير "المطالب".
ما يقع هو عجز بنيوي لنموذج دولتي، ينطلق من "مقاربة" الوصاية على المجتمع، عبر آليات عديدة للترتيبات الفوقية ذات المنشأ السلطوي.
يوضح هذا العجز اليوم أن التحكم في الأحزاب السياسية لا يمكن، مثلا، أن يوازيه التحكّم في خيارات الناخبين المدينيين، ولا أن يوازيه التحكّم في الحركات الاجتماعية.
لذلك، يبدو التناقض اليوم واضحا، بين خيار عودة الملكية التنفيذية وتهميش السياسة، والتعالي على المشروعية الشعبية، من جهة، وانفجار الطلب الاجتماعي، وتحرّر المجتمع من تقاليد الوصاية وتمسك قطاعات واسعة منه بفكرة المساءلة.
لذلك كله، الحل بالتأكيد ليس في الاعتقالات والمحاكمات.
يرتبط الجيل الأول بعودة المسألة الاجتماعية، فيما يرتبط الثاني بانبثاق ظاهرة القدرة التعبوية للقضايا الثقافية والهوياتية.
سمح التركيب بين الجيلين بمنح المطالب الاجتماعية والاقتصادية وعاءً ثقافيا مشتركا، كما منح هذه المطالب قدرةً تعبويةً قوية باستثمارها خطاب الانتماء الجماعي إلى مجال جغرافي ولغوي، تحيط به سرديةٌ مليئة بكثافة من الرموز التاريخية (عبد الكريم الخطابي) وعلامات الاصطدام مع السلطة المركزية (1948- 1958)، ومخيال جمعي جريح، حيث لم تسمح الخطوات المهمة للمصالحة، كما دشنها عهد الملك محمد السادس، بتجاوز الندوب العميقة للماضي.
في التفاصيل، توفرت للحركة الاحتجاجية شروط حالة مدرسية: حدث تأسيسي قوي قادر على التأطير وإيجاد المعنى السياسي والشحنة العاطفية (وفاة مؤلمة للشاب بائع السمك محسن فكري)، بحمولة استثنائية، تعيد التذكير بكل سردية التهميش و"الحكرة". قيادة شعبية أنتجت الخطاب المطابق للحالة الاحتجاجية، بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع مرجعياته وتركيبته (ظاهرة ناصر الزفزافي).
في التحقيب، يبدو هذا "الحَراك" منخرطا في لحظة ما بعد الانفجارات الحضرية الكبرى (1965/ 1980/ 1984 /1990)، والمتميزة بالاحتجاجات التي عرفتها مدن مغربية صغيرة ومتوسطة انطلاقا من العام 2005 (صفرو، سيدي إفني، تازة...)، على أنه يظل مختلفا في: امتداده الزمني، وقدرته على نقل "العدوى المجالية" في محيطه الإقليمي، وطبيعة قيادته الميدانية، وحجمه الجماهيري.
لذلك كله، تبقى هذه الديناميكية الاحتجاجية أقرب في الواقع إلى روح حركة 20 فبراير، ذلك أنها من أعادت، مرة أخرى، التأكيد على حقيقة سوسيولوجية وسياسية تنتمي إلى "الاتجاهات الثقيلة" التي تخترق المجتمع المغربي، والتي تتعلق بترسخ عقيدة المساءلة لدى قطاعاتٍ واسعة منه، وتحرّره من هواجس الخوف.
هذه التحولات المجتمعية التي فرضت تصاعدا في ثقافة ديمقراطية الرأي (الاحتجاج على البيدوفيل الإسباني، وقائع الاحتجاج عبر وسائط التواصل على الوزراء الذين ارتبطوا بفضائح..)، وانفلاتا شبه نهائي للمدن من استراتيجيات التحكم الانتخابي (سبتمبر/ أيلول 2015، أكتوبر/ تشرين الأول 2016).
كل هذه الاستطرادات ضرورية للقول إن ما يقع في الحسيمة ليس أثرا لزعامة احتجاجية فردية استثنائية، ولا هو انفلاتٌ عابر في علاقة السلطة بالمجتمع، سرعان ما سينتهي بمقاربة أمنية تقليدية.
ما يقع هو تحوّل عميق في تمثل المجتمع المغربي لذاته وللدولة.
ما يقع يعني، كذلك، أزمة كبرى في الوساطة المجتمعية، بقنواتها الحزبية والنقابية والمدنية، وبنخبها ومثقفيها، تجعل استراتيجية الشارع خيارا مركزيا لدى المجتمع، وتجعلنا أمام خطاب "خام"، لم يتعرّض لآثار "العقلنة" داخل مؤسسات التأطير وتدوير "المطالب".
ما يقع هو عجز بنيوي لنموذج دولتي، ينطلق من "مقاربة" الوصاية على المجتمع، عبر آليات عديدة للترتيبات الفوقية ذات المنشأ السلطوي.
يوضح هذا العجز اليوم أن التحكم في الأحزاب السياسية لا يمكن، مثلا، أن يوازيه التحكّم في خيارات الناخبين المدينيين، ولا أن يوازيه التحكّم في الحركات الاجتماعية.
لذلك، يبدو التناقض اليوم واضحا، بين خيار عودة الملكية التنفيذية وتهميش السياسة، والتعالي على المشروعية الشعبية، من جهة، وانفجار الطلب الاجتماعي، وتحرّر المجتمع من تقاليد الوصاية وتمسك قطاعات واسعة منه بفكرة المساءلة.
لذلك كله، الحل بالتأكيد ليس في الاعتقالات والمحاكمات.