19 سبتمبر 2022
في مشكلات الإعلام المرئي العربي
مؤسف جداً أن هناك من إعلاميينا من ليسوا مؤهلّين أبداً لمواجهة التحدّيات الجديدة، وغير قادرين على توظيف منجزات العصر من أجل تطوير مجتمعاتنا العربية، وتحديث ذهنياتنا، وتكوين مصائرنا. هناك إعلاميون حقيقيون مهنيون وأذكياء نجحوا في مهامهم، لكنهم فشلوا في المساهمة بمعالجة الجوانب الاجتماعية والفكرية والأوضاع السكانية والثقافية والمستقبلية. وذلك فيما ازداد عدد الفضائيات التلفزيونية الناطقة بالعربية، وسيزداد، فتفاقمت التداعيات والأخطاء، وغدا بعضها ناطقاً باسم أشخاص وأحزاب وطوائف ومذاهب، وبأساليب متدنّية جداً، في كلّ ما تقدّمه للناس من إسفافٍ حقيقيٍّ وخزعبلاتٍ ومهاتراتٍ وأكاذيب وشتائم وسحرة. غابت الرقابة على الممنوعات، لتصبح الأمور منفلتة إلى درجة لم يعد فيها كلّ المصلحين قادرين على رتق الفجوات، وتضييق المرئيات، ومتابعة الأخطاء.. وعليه، إن استمرت، فستولد أخطاء وستنشأ أجيال عربية كاملة قادمة على كلّ هذا الغثاء، من دون أيّ ضوابط.
ويبدو الإعلام المرئي العربي اليوم متراخياً في مجمله، ومن يتابع ما يبثّ في الفضائيات العربية المتنوعة، وأعدادها مئات، سيكتشف أن كثيرا منها ليس له أي مصداقية حقيقية، ففضائيات غير قليلة لا تكتفي بأدوار الإثارة المصطنعة والضجيج، وفبركة الموضوعات، وبرامج اللهو، والمسلسلات التافهة، والأفلام السخيفة أو الاستعراضات البدائية أو المكرّرات الساذجة، أو الحوارات البليدة، بل إن بعضها يساهم في نشر الشعوذة والخزعبلات باسم الدين، في برامج استهلاكية رثّة ترتزق منها المحطات عبر الاتصالات التليفونية.. ويبدو أن الشعوذات باتت لها جماهيرها الواسعة في مجتمعاتنا العربية، في حين يغيّب، عن قصد، كلّ العلماء والمفكرين والمثقفين الحقيقيين المتميزين باستنارتهم ونظافة عقولهم. وعليه، ليس هناك أي إعلام حقيقي عربي إلا ما ندر، وحجم الأخطاء في المعرفة، إن كانت هناك هوامش لها في الإعلام المرئي، تجده ضعيفاً وهزيلاً ومليئاً بالأخطاء، بل وتحرّف المعرفة والعلوم تماماً مع ما يستقيم مع المعتقدات والأيديولوجيات والنصوص. وهذا من أكبر الجنايات التي يكتسبها المرء في مثل هذا الزمن.
تمزقات بنيوية للنسيج العربي
المشكلات التي يعاني منها الإعلام المرئي العربي بنيوية صعبة تشمل كلّ المرافق، فهي تتمفصل في الجوانب السياسية أساساً، ومنها تتمدّد نحو الجوانب الاجتماعية والثقافية
والاقتصادية، وهي عامة وشاملة، ولا تقتصر على بيئةٍ معينةٍ، من دون بيئات أخرى. ومن أبرز ما يمكن تلمسّه فقدان المصداقية إزاء التعبير عن قضايا خطيرة تهمّ مستقبل العرب أجمع. وفي مقارنة لما كان عليه الإعلام العربي قبل خمسين سنة بما آل إليه اليوم، كان الأول، على الرغم من مثالبه، أكثر التزاماً بقضايا العرب، وكان يعبّر عنها، ويترجم للرأي العام وواقع العرب ترجمة موحدة، في حين نجد كثيرا منه اليوم، وقد انشغل بقضايا تافهة، ويفسح المجال للإعلاميات المضادة تفعل فعلها.
كان الإعلام العربي يعبر عن أهداف موحّدة، على الرغم من الانقسامات السياسية، في حين أنه اليوم يعبّر عن حالات تمزق مرئية، بفعل تمزق نسيج الأمة، وتشّظي الأهداف العربية. وقد فعلت فيه التوجهات المتفرقة، المحلية والإقليمية والجهوية والطائفية المريرة فعلها، أو قد ينشغل الإعلام العربي اليوم بقضية ساخنة أياما معدودة، ثم يلتفت منشغلاً بقضيةٍ أخرى، حيث نجد الأولى متآكلة ومنسية في الأذهان، وهو حال كلّ القضايا الساخنة، للأسف الشديد.
في الإعلام المرئي المقارن
للأميركيين فضائياتهم ووكالاتهم الإعلامية الموجّهة، ومن يراقب المرئيات في بريطانيا يجد شغف كلّ البريطانيين بقنوات "بي بي سي" وقنوات بريطانية ممتعة ومتطورة أخرى. وهذا ما نجده في فرنسا، إلا مئات المرئيات العربية، تبث ما لا يمكن أن يعقل أبداً. لكلّ فضائية عربية سياسة معينة، ومزاجية خاصة، ومرجعية لها لا تتجاوز خطوطها الحمراء، فإن كانت الفضائيات تعكس رغبة ما تريده المجتمعات، لا الدول، فإنها تساهم مساهمةً حقيقيةً في تأخر الوعي، وجرّ التفكير العربي إلى الوراء قسراً، بزراعة كلّ الخطايا في طبيعة الإدراك الجمعي الذي بات يستهوي ما يرضي عواطفه، وما يشبع رغباته، وما يلائم أمزجته السياسية، وما يريح أعصابه، وما يرضى نزعاته المتشظية: الدينية والمذهبية والطائفية التي تشيع روح الانقسام، وتنمّي مشاعر الكراهية، وتزرع الأحقاد.
عشرات القنوات الفضائية العربية دينية لا ترى فيها إلّا مشايخ يفسرون الدين كلّ على هواه، وعشرات أخرى تبثّ الطائفية، بل وتوزّع الشتائم والسباب، وقد أصبح لكلّ بلد عربي طابعه ونماذجه من الفضائيات، فمصر لها موديلاتها، والعراق له نماذجه، ولبنان له أنواعه، أما السعودية والإمارات فإنهما تمولان عشرات الفضائيات، وأغلبها للتسلية وحرق الزمن. وتبقى الغريمتان، "العربية" السعودية و"الجزيرة" القطرية في موقعين متضادين، وخصوصا في الأخبار ومتابعة الأحداث. وفي الأثناء، اعتادت مجتمعاتنا الشبابية اليوم على اللهو وقضاء الوقت بالتمتع بمثل هذه البضاعة أو تلك، أو تجد من يهوى الأفلام السخيفة، أو المسلسلات التافهة، أو متابعة البرامج الدينية والمذهبية ليرضي عواطفه الساخنة ويشفي غليله.
اقتراحات
ثمّة مبادئ ومواثيق عمل، يمكن اتخاذها للحدّ من الظاهرة الإعلامية السالبة في المجال العربي، ويمكن إيجازها في الآتي:
أولاً: ضرورة التمسّك بالضوابط الأخلاقية في إضاءة وسائل الإعلام على القضايا السياسية (وخصوصا العربية) على أسس موضوعية، إضافة إلى جعل وسائل الإعلام جسور ثقة لبناء السلم المجتمعي، مع احترام كلّ من الخصوصية الفردية والملكية الفكرية وحرية الرأي، وإصدار تشريعات للحدّ من جرائم الإنترنت، والعناية بالمعرفة الموسوعية المصوّرة للأجيال الجديدة، والحدّ من بث العنف في السينما والتلفزيون. ثم العمل على إصدار تشريعات تحدّ من جرائم السبّ والقذف والتشهير والشتائم مع ضبط أخلاقيات وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضية، فضلاً عن تحريم سرقة المعلومات والمصورات والمنشورات، أو نشر المواد الخاصة من دون ذكر أصحابها.
ثانياً: تقتضي الضرورة التاريخية ضبط الأنباء وأخبار الأحداث التي تتناقلها وكالات الأنباء العربية، بما فيها الخليجية، "بإيجاد سبل ووسائل استراتيجية قوية وفاعلة تربوية وتعليمية ودراسية وإعلامية ومعلوماتية عن منطقة الخليج العربي، ومجالها الحيوي في العالم، وأهميتها التي تتعاظم يوما بعد آخر في القرن الحادي والعشرين، من أجل بناء الوعي بشأنها، وفهمها، و"خصوصا عند الأجيال الثلاثة المقبلة التي من دون ذلك لن تتحقق لها القوة الفاعلة للمشاركة العولمية القادمة.."، كما كتبت، في عام 2003، في كتابي "المجال الحيوي للخليج العربي".
ثالثاً: لا يكتفي الإعلام المعاصر بأدوار الإثارة والضجيج وفبركة الموضوعات واللهو أو الاستعراضات أو المكرّرات الساذجة، أو إشغال الناس بالمسابقات والعروض التافهة، بل يعد دوره أساسيا في تربية الأجيال، وتهذيب الأذواق، وتصويب الأخطاء، ومراقبة الأداء، ونشر الرأي العام على حقائقه، ومتابعة الأحداث والوقائع والتعرّف على ثقافات العالم وآخر منتجاته. كما يعد الإعلام المرئي أعظم محلل للمعلومات، ووسيلة إيضاح على امتداد الليل والنهار لكل الناس. ومقارنة جادة بين مجالات إعلامنا بغيره في العالم المتمدّن سيوقفنا على جملة هائلة من التباينات والمفارقات، كما هو حال الصحافة العربية المعاصرة التي تفتقد الاستقلالية والحيادية، إلا ما ندر.
رابعاً: ثمّة برامج سياسية ودينية، يقدمها مذيعون وساسة ومعممون وفنانون من مغنين وممثلين، يستخف بعضهم بعقلية المشاهد والمتلقي، كون الواحد منهم لم يعمل إعلامياً طوال حياته، فيقدّم للناس كلّ سذاجةٍ وفجاجة، بعيداً عن أي معلومات شفاهية أو مصوّرة حقيقية، مع هول الأخطاء اللغوية والجغرافية والطبوغرافية، وحتى النقص في الثقافة العامة لدى عديدين منهم، ونطمح أن تستفيد تجاربنا العربية في الإعلام من تجارب عالمية أخرى. كتب خالد الجابر في الكتاب الذي اشترك في تحريره عن الإعلام الخليجي: "تم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مفرط وغير مسؤول من قبل البعض؛ وأدى ذلك إلى وجود حالة من الاستقطاب السياسي، والاصطفاف الأيديولوجي، والتخندق الطائفي والديني والمذهبي والقبلي، ونشر الأكاذيب والإشاعات والفتن، والترويج للتطرف والعنصرية والإرهاب".
في ضرورة تجديد الإعلاميات الخليجية
أولاً: لا بدّ من تجديد منظومة الإعلاميات الخليجية العربية، فالتغيير لا بدّ أن يحصل في كلّ مرافق الإعلام، فضلا عن تغيير أنماط تلك الفضائيات من حالاتها البائسة التي ملّها الناس إلى أنماط جديدة من الموضوعات، فليست حياة العرب كلّها سياسة وآراء سياسية (وخبراء استراتيجيين مزيفين)، فمجتمعاتنا بحاجة إلى إصلاحات جذرية، وموضوعات وتحليلات معمقة، يقوم بها مختصون أذكياء! كما أن الجيل الجديد لا يعرف من فضائيات اليوم إلا الانغلاق والسذاجة أو الفجاجة واللهو والرقص والاستعراضات الصارخة والأغاني الهابطة.. ولا يعرف أيضا إلا المماحكات الفقهية، ومكرّراتها والتناقضات السياسية. إنه يحتاج برامج موسوعية عليا، تطور من عقلية المجتمع، وتشحذ طاقاته وتصقل إبداعاته، بدل عرض برامج سخيفة نزقة، تأكل الزمن وتضعف الحياة، وتشغل التفكير وتميت الأعصاب وتشوّه الأذواق.. الفضائيات العربية التي لا تعدّ ولا تحصى ملزمة بأن تطوّر من البرامج الاقتصادية والجغرافية والمناخية والسياحية، ومعرفة ثقافات الشعوب والاطّلاع على آخر مبتكرات العلم الحديث، فهل سنبقى في هذا الوهن، تغرقنا بلادة فضائياتنا العربية، أم سنسعى إلى التغيير الجاد؟
ثانيا: ما حدث في السنوات العشر الأخيرة في الإعلاميات المرئية يعد ثورة حقيقية في المعلومات والرأي والأفكار والأخبار، من خلال تطور الميديا الحديثة وشبكة المعلومات الدولية، وأصبح العالم بأسره صغيرا، بل أصبحت مجتمعاتنا نفسها منكشفة بعضها على الآخر، وكل يوم يمضي تتّكشف كل مخفياتها ومسكوتاتها وأسرارها التي اختزنتها أزمانا طويلة! وكان على فضائياتنا أن تكون أكثر حرفية وذكاء وأداء في معالجة واقعنا الذي لم يعد يحتمي بالمستورات، ويكشف أكثر عن كل أسراره الجميلة والبشعة! لقد غدت ثورة المعلومات والفضائيات أهم وسيلةٍ لفضح مخفيات مجتمعاتنا برمتها، وكشف كل المستورات، وبدا الناس يتعّرفون، لأول مرة، على كنه مجتمعاتهم، وما تتضمّنه شرائحها وبيئاتها وجهوياتها من عاداتٍ وتقاليد وطقوس غير مشتركة.. بل بدا الواقع كله مفضوحا ومتعرّيا بكل ما فيه من أدران ومشكلات ورزايا.
ثالثا: الثورة الإعلامية إما أن تغدو وسيلة نهضوية حضارية من أجل بناء المستقبل، أو ستبقى وسيلة ضارة تؤثر على حياتنا العربية، إذ ستبقى كسيحةً واستهلاكيةً وضائعةً ومشوهةً وملتبسة، وتلك مشكلة معقّدة لا يمكن حلّها. وعليه، نطالب بأن يندرج الإعلام المرئي خصوصا في دائرة اهتمام الدول والمجتمعات والمدارس والجامعات، وكل المؤسسات ذات الصلة، من أجل تقويم أدائه وتطوير برامجه ومنوعاته والاستفادة من مبتكرات ما تقدّمه بقية المجتمعات لأبنائها. لعل من أهم ما يمكن العناية به يتمثل في المجال الاجتماعي والثقافي، إذ لا يمكن تطوير المجال المعيشي والإسكاني على حساب تدني الوعي، أي لا يمكن العناية بالبنية التحتية فقط على حساب ضعف البنية الفوقية في بعض المجتمعات العربية، وذلك يتطلب الاهتمام بالحياة الثقافية والإعلامية، والاهتمام بالفرد ووسائل دعمه، وتمتعه باختياراته الثقافية الحرة، وجعله المتلقي المتميز بذوقه وتميزه وحسن اختياراته.
وأخيرا، المتمنّى أن يلتفت كل المسؤولين العرب إلى حالة الإعلام المرئي العربي لمعالجة مشكلاته الصعبة، وألا يتم الاكتفاء بالموائد المستديرة التي يلقي فيها بعض الإعلاميين أفكارهم المتصلة بهذا الواقع، ما لم تتم معالجة الواقع أصلا، وخلاصه من حالات التمزق، والارتقاء بجملةٍ من العلاجات الحاسمة على أيدي إعلاميين مثقفين، مهنيين حقيقيين، تهمهم المصالح العليا للأمة، بديلا عن هذا الكم من السذّج والمغالين والمتعصبين الذين يدورون في فلك منظوماتهم الفكرية والمؤسساتية والسياسية والأيديولوجية التي مزّقت نسيجنا الفكري.
ويبدو الإعلام المرئي العربي اليوم متراخياً في مجمله، ومن يتابع ما يبثّ في الفضائيات العربية المتنوعة، وأعدادها مئات، سيكتشف أن كثيرا منها ليس له أي مصداقية حقيقية، ففضائيات غير قليلة لا تكتفي بأدوار الإثارة المصطنعة والضجيج، وفبركة الموضوعات، وبرامج اللهو، والمسلسلات التافهة، والأفلام السخيفة أو الاستعراضات البدائية أو المكرّرات الساذجة، أو الحوارات البليدة، بل إن بعضها يساهم في نشر الشعوذة والخزعبلات باسم الدين، في برامج استهلاكية رثّة ترتزق منها المحطات عبر الاتصالات التليفونية.. ويبدو أن الشعوذات باتت لها جماهيرها الواسعة في مجتمعاتنا العربية، في حين يغيّب، عن قصد، كلّ العلماء والمفكرين والمثقفين الحقيقيين المتميزين باستنارتهم ونظافة عقولهم. وعليه، ليس هناك أي إعلام حقيقي عربي إلا ما ندر، وحجم الأخطاء في المعرفة، إن كانت هناك هوامش لها في الإعلام المرئي، تجده ضعيفاً وهزيلاً ومليئاً بالأخطاء، بل وتحرّف المعرفة والعلوم تماماً مع ما يستقيم مع المعتقدات والأيديولوجيات والنصوص. وهذا من أكبر الجنايات التي يكتسبها المرء في مثل هذا الزمن.
تمزقات بنيوية للنسيج العربي
المشكلات التي يعاني منها الإعلام المرئي العربي بنيوية صعبة تشمل كلّ المرافق، فهي تتمفصل في الجوانب السياسية أساساً، ومنها تتمدّد نحو الجوانب الاجتماعية والثقافية
كان الإعلام العربي يعبر عن أهداف موحّدة، على الرغم من الانقسامات السياسية، في حين أنه اليوم يعبّر عن حالات تمزق مرئية، بفعل تمزق نسيج الأمة، وتشّظي الأهداف العربية. وقد فعلت فيه التوجهات المتفرقة، المحلية والإقليمية والجهوية والطائفية المريرة فعلها، أو قد ينشغل الإعلام العربي اليوم بقضية ساخنة أياما معدودة، ثم يلتفت منشغلاً بقضيةٍ أخرى، حيث نجد الأولى متآكلة ومنسية في الأذهان، وهو حال كلّ القضايا الساخنة، للأسف الشديد.
في الإعلام المرئي المقارن
للأميركيين فضائياتهم ووكالاتهم الإعلامية الموجّهة، ومن يراقب المرئيات في بريطانيا يجد شغف كلّ البريطانيين بقنوات "بي بي سي" وقنوات بريطانية ممتعة ومتطورة أخرى. وهذا ما نجده في فرنسا، إلا مئات المرئيات العربية، تبث ما لا يمكن أن يعقل أبداً. لكلّ فضائية عربية سياسة معينة، ومزاجية خاصة، ومرجعية لها لا تتجاوز خطوطها الحمراء، فإن كانت الفضائيات تعكس رغبة ما تريده المجتمعات، لا الدول، فإنها تساهم مساهمةً حقيقيةً في تأخر الوعي، وجرّ التفكير العربي إلى الوراء قسراً، بزراعة كلّ الخطايا في طبيعة الإدراك الجمعي الذي بات يستهوي ما يرضي عواطفه، وما يشبع رغباته، وما يلائم أمزجته السياسية، وما يريح أعصابه، وما يرضى نزعاته المتشظية: الدينية والمذهبية والطائفية التي تشيع روح الانقسام، وتنمّي مشاعر الكراهية، وتزرع الأحقاد.
عشرات القنوات الفضائية العربية دينية لا ترى فيها إلّا مشايخ يفسرون الدين كلّ على هواه، وعشرات أخرى تبثّ الطائفية، بل وتوزّع الشتائم والسباب، وقد أصبح لكلّ بلد عربي طابعه ونماذجه من الفضائيات، فمصر لها موديلاتها، والعراق له نماذجه، ولبنان له أنواعه، أما السعودية والإمارات فإنهما تمولان عشرات الفضائيات، وأغلبها للتسلية وحرق الزمن. وتبقى الغريمتان، "العربية" السعودية و"الجزيرة" القطرية في موقعين متضادين، وخصوصا في الأخبار ومتابعة الأحداث. وفي الأثناء، اعتادت مجتمعاتنا الشبابية اليوم على اللهو وقضاء الوقت بالتمتع بمثل هذه البضاعة أو تلك، أو تجد من يهوى الأفلام السخيفة، أو المسلسلات التافهة، أو متابعة البرامج الدينية والمذهبية ليرضي عواطفه الساخنة ويشفي غليله.
اقتراحات
ثمّة مبادئ ومواثيق عمل، يمكن اتخاذها للحدّ من الظاهرة الإعلامية السالبة في المجال العربي، ويمكن إيجازها في الآتي:
أولاً: ضرورة التمسّك بالضوابط الأخلاقية في إضاءة وسائل الإعلام على القضايا السياسية (وخصوصا العربية) على أسس موضوعية، إضافة إلى جعل وسائل الإعلام جسور ثقة لبناء السلم المجتمعي، مع احترام كلّ من الخصوصية الفردية والملكية الفكرية وحرية الرأي، وإصدار تشريعات للحدّ من جرائم الإنترنت، والعناية بالمعرفة الموسوعية المصوّرة للأجيال الجديدة، والحدّ من بث العنف في السينما والتلفزيون. ثم العمل على إصدار تشريعات تحدّ من جرائم السبّ والقذف والتشهير والشتائم مع ضبط أخلاقيات وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضية، فضلاً عن تحريم سرقة المعلومات والمصورات والمنشورات، أو نشر المواد الخاصة من دون ذكر أصحابها.
ثانياً: تقتضي الضرورة التاريخية ضبط الأنباء وأخبار الأحداث التي تتناقلها وكالات الأنباء العربية، بما فيها الخليجية، "بإيجاد سبل ووسائل استراتيجية قوية وفاعلة تربوية وتعليمية ودراسية وإعلامية ومعلوماتية عن منطقة الخليج العربي، ومجالها الحيوي في العالم، وأهميتها التي تتعاظم يوما بعد آخر في القرن الحادي والعشرين، من أجل بناء الوعي بشأنها، وفهمها، و"خصوصا عند الأجيال الثلاثة المقبلة التي من دون ذلك لن تتحقق لها القوة الفاعلة للمشاركة العولمية القادمة.."، كما كتبت، في عام 2003، في كتابي "المجال الحيوي للخليج العربي".
ثالثاً: لا يكتفي الإعلام المعاصر بأدوار الإثارة والضجيج وفبركة الموضوعات واللهو أو الاستعراضات أو المكرّرات الساذجة، أو إشغال الناس بالمسابقات والعروض التافهة، بل يعد دوره أساسيا في تربية الأجيال، وتهذيب الأذواق، وتصويب الأخطاء، ومراقبة الأداء، ونشر الرأي العام على حقائقه، ومتابعة الأحداث والوقائع والتعرّف على ثقافات العالم وآخر منتجاته. كما يعد الإعلام المرئي أعظم محلل للمعلومات، ووسيلة إيضاح على امتداد الليل والنهار لكل الناس. ومقارنة جادة بين مجالات إعلامنا بغيره في العالم المتمدّن سيوقفنا على جملة هائلة من التباينات والمفارقات، كما هو حال الصحافة العربية المعاصرة التي تفتقد الاستقلالية والحيادية، إلا ما ندر.
رابعاً: ثمّة برامج سياسية ودينية، يقدمها مذيعون وساسة ومعممون وفنانون من مغنين وممثلين، يستخف بعضهم بعقلية المشاهد والمتلقي، كون الواحد منهم لم يعمل إعلامياً طوال حياته، فيقدّم للناس كلّ سذاجةٍ وفجاجة، بعيداً عن أي معلومات شفاهية أو مصوّرة حقيقية، مع هول الأخطاء اللغوية والجغرافية والطبوغرافية، وحتى النقص في الثقافة العامة لدى عديدين منهم، ونطمح أن تستفيد تجاربنا العربية في الإعلام من تجارب عالمية أخرى. كتب خالد الجابر في الكتاب الذي اشترك في تحريره عن الإعلام الخليجي: "تم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مفرط وغير مسؤول من قبل البعض؛ وأدى ذلك إلى وجود حالة من الاستقطاب السياسي، والاصطفاف الأيديولوجي، والتخندق الطائفي والديني والمذهبي والقبلي، ونشر الأكاذيب والإشاعات والفتن، والترويج للتطرف والعنصرية والإرهاب".
في ضرورة تجديد الإعلاميات الخليجية
أولاً: لا بدّ من تجديد منظومة الإعلاميات الخليجية العربية، فالتغيير لا بدّ أن يحصل في كلّ مرافق الإعلام، فضلا عن تغيير أنماط تلك الفضائيات من حالاتها البائسة التي ملّها الناس إلى أنماط جديدة من الموضوعات، فليست حياة العرب كلّها سياسة وآراء سياسية (وخبراء استراتيجيين مزيفين)، فمجتمعاتنا بحاجة إلى إصلاحات جذرية، وموضوعات وتحليلات معمقة، يقوم بها مختصون أذكياء! كما أن الجيل الجديد لا يعرف من فضائيات اليوم إلا الانغلاق والسذاجة أو الفجاجة واللهو والرقص والاستعراضات الصارخة والأغاني الهابطة.. ولا يعرف أيضا إلا المماحكات الفقهية، ومكرّراتها والتناقضات السياسية. إنه يحتاج برامج موسوعية عليا، تطور من عقلية المجتمع، وتشحذ طاقاته وتصقل إبداعاته، بدل عرض برامج سخيفة نزقة، تأكل الزمن وتضعف الحياة، وتشغل التفكير وتميت الأعصاب وتشوّه الأذواق.. الفضائيات العربية التي لا تعدّ ولا تحصى ملزمة بأن تطوّر من البرامج الاقتصادية والجغرافية والمناخية والسياحية، ومعرفة ثقافات الشعوب والاطّلاع على آخر مبتكرات العلم الحديث، فهل سنبقى في هذا الوهن، تغرقنا بلادة فضائياتنا العربية، أم سنسعى إلى التغيير الجاد؟
ثانيا: ما حدث في السنوات العشر الأخيرة في الإعلاميات المرئية يعد ثورة حقيقية في المعلومات والرأي والأفكار والأخبار، من خلال تطور الميديا الحديثة وشبكة المعلومات الدولية، وأصبح العالم بأسره صغيرا، بل أصبحت مجتمعاتنا نفسها منكشفة بعضها على الآخر، وكل يوم يمضي تتّكشف كل مخفياتها ومسكوتاتها وأسرارها التي اختزنتها أزمانا طويلة! وكان على فضائياتنا أن تكون أكثر حرفية وذكاء وأداء في معالجة واقعنا الذي لم يعد يحتمي بالمستورات، ويكشف أكثر عن كل أسراره الجميلة والبشعة! لقد غدت ثورة المعلومات والفضائيات أهم وسيلةٍ لفضح مخفيات مجتمعاتنا برمتها، وكشف كل المستورات، وبدا الناس يتعّرفون، لأول مرة، على كنه مجتمعاتهم، وما تتضمّنه شرائحها وبيئاتها وجهوياتها من عاداتٍ وتقاليد وطقوس غير مشتركة.. بل بدا الواقع كله مفضوحا ومتعرّيا بكل ما فيه من أدران ومشكلات ورزايا.
ثالثا: الثورة الإعلامية إما أن تغدو وسيلة نهضوية حضارية من أجل بناء المستقبل، أو ستبقى وسيلة ضارة تؤثر على حياتنا العربية، إذ ستبقى كسيحةً واستهلاكيةً وضائعةً ومشوهةً وملتبسة، وتلك مشكلة معقّدة لا يمكن حلّها. وعليه، نطالب بأن يندرج الإعلام المرئي خصوصا في دائرة اهتمام الدول والمجتمعات والمدارس والجامعات، وكل المؤسسات ذات الصلة، من أجل تقويم أدائه وتطوير برامجه ومنوعاته والاستفادة من مبتكرات ما تقدّمه بقية المجتمعات لأبنائها. لعل من أهم ما يمكن العناية به يتمثل في المجال الاجتماعي والثقافي، إذ لا يمكن تطوير المجال المعيشي والإسكاني على حساب تدني الوعي، أي لا يمكن العناية بالبنية التحتية فقط على حساب ضعف البنية الفوقية في بعض المجتمعات العربية، وذلك يتطلب الاهتمام بالحياة الثقافية والإعلامية، والاهتمام بالفرد ووسائل دعمه، وتمتعه باختياراته الثقافية الحرة، وجعله المتلقي المتميز بذوقه وتميزه وحسن اختياراته.
وأخيرا، المتمنّى أن يلتفت كل المسؤولين العرب إلى حالة الإعلام المرئي العربي لمعالجة مشكلاته الصعبة، وألا يتم الاكتفاء بالموائد المستديرة التي يلقي فيها بعض الإعلاميين أفكارهم المتصلة بهذا الواقع، ما لم تتم معالجة الواقع أصلا، وخلاصه من حالات التمزق، والارتقاء بجملةٍ من العلاجات الحاسمة على أيدي إعلاميين مثقفين، مهنيين حقيقيين، تهمهم المصالح العليا للأمة، بديلا عن هذا الكم من السذّج والمغالين والمتعصبين الذين يدورون في فلك منظوماتهم الفكرية والمؤسساتية والسياسية والأيديولوجية التي مزّقت نسيجنا الفكري.