أضحوكة الانسداد السياسي في العراق
من أين يأتي بعض العراقيين بهذه "المصطلحات" التي لا وجود لها في القواميس السياسيّة، ولم يستخدمها أحد غيرهم، فقد غدا "الانسداد السياسي" متداولاً في كلّ الأوساط العراقية منذ نحو أربعة أشهر مضت. نعرف أن انسداداً قد يحدث في الجهاز الهضمي أو في مجاري الصرف الصحي، أو ذلك الذي يحصل في قنوات المياه، وهو من سدّ الماء أوالباب .. إلخ. أما أن يُستخدم سياسياً لوصف حالة سياسية معقدّة، كما هي تسميتهم "النظام الحاكم" بـ "العملية السياسية"، وهلّم جرا .. المهم أن الجنون على الأرض من الساسة الكبار الذين يتناحرون على تسلّم السلطة هو الذي يولّد توصيفاتٍ كهذه، يستخدمونها في غير محلّها. وكلّما مرّت الأيّام والشهور منذ ظهور نتائج الانتخابات التشريعية ومهازلها في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وجد أولئك المتدافعون نحو السلطة أنفسهم وقد عادوا إلى الواجهة، ليس لأن الشعب قد انتخبهم ليكونوا قادة للبلاد، ولكن ما حدث وراء الكواليس من تزوير أنهم أنفسهم لم يصدّقوا أبداً فوزهم غير المتوقع، وراح الخاسرون يندبون حظهم العاثر.
ومؤكّد أن هؤلاء الذين حصلوا على مقاعد في البرلمان من أحزاب معروفة، ترتبط بها إحدى دول الجوار بلا أدنى شك. ولم تنفع طعون الخاسرين في المحكمة الاتحادية، فقد طبخ كلّ شيء على نار هادئة، ضمن قانون الانتخابات الجديد الذي سنّه البرلمان العراقي والمعتمد دوائر متعددة. ولكن النتائج خيبت آمال كلّ المطالبين بالتغيير والتمدّن والقضاء على الفساد والفاسدين، وخصوصاً إبقاء النخبة السياسية الحاكمة التي احتكرت السلطة منذ 2005. وكان أركانها، مثل نوري المالكي وهادي العامري وعمّار الحكيم، قد اعترفوا، في مناسبات عدة، بأنهم كانوا قد فشلوا في إدارة البلاد، وبأنهم كانوا السبب وراء كل الموبقات، وكانوا سبباً في انهيار النظام الاجتماعي والأخلاقي في العراق. وعلى الرغم من ذلك، فهم اليوم يقفون حجر عثرة أمام تشكيل الوزارة الجديدة بعد مشكلة اختيار رئيس للجمهورية، بل وأنهم جميعا يقودون العراق إلى الانهيار والخراب.
لم تنفع لا الطعون ولا الاعتصامات ولا الاعتراضات، إذ تبوأ كلّ نائب في مقعده من خلال الصفقات والمساومات والأباطيل وخداع كل الأطراف قاطبة، وكيل الوعود للشعب. المشكلة أن الحكومة لا تتشكّل إلا عبر مرشّح من الكتلة الكبرى. وهذا الماراثون المضحك المخجل لا نجده إلّا في العراق جرّاء عوامل داخلية متوافقة تماما مع الإرادة الإيرانية التي يريدون فرضها مهما كانت الأثمان. وعليه، فإن "الانسداد" في العراق ليس طبيعياً، حتى يعالج أسلوب فتحه، بل هو بفعل فاعل، فهم يريدون انسداد جهاز العراق الهضمي، حتى ينتفخ ويتورّم حتى ينفجر.
"الانسداد" في العراق ليس طبيعياً، حتى يعالج أسلوب فتحه، بل هو بفعل فاعل، فهم يريدون انسداد جهاز العراق الهضمي، حتى ينتفخ ويتورّم حتى ينفجر
من المضحك أيضاً أنهم قررّوا حسم النتائج أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2021، ولكن صفقتهم نجحت بانتخاب رئيس البرلمان في شهر فبراير/ شباط الماضي وسط الأهازيج كون ذلك انتصاراً للسنة. وبقي منصب كلّ من رئيسي الجمهورية والوزراء مستعصياً أمرهما، وسط اختناقات ومراهنات وقبوضات ومدافعات كعمل المافيات، فوصل الأمر إلى "الانسداد"، كما وصفوه، بلا لياقة أو كياسة. وعندما جاءوا بمصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء لسد ثغرةٍ أحدثوها عن تعمّد وسبق إصرار بعد فشل سلفه عادل عبد المهدي، فوعد الرئيس الجديد بانتخاباتٍ مبكرة، ولم يدر أنّ المعضلة ليست في الانتخابات، بل في من يكون رئيسا للوزراء، فما نفع الانتخابات المبكّرة إذا كانت قد انتهت منذ أكثر من ثمانية شهور، والنتيجة "انسداد سياسي"؟
المشكلة الحقيقية في العراق لا تحلّ أبدا، لا من خلال التناحرات ولا عبر التحالفات التي بانت مفضوحة بعد الانتخابات باسم "التحالف الثلاثي" وتحالف "الإطار التنسيقي" فضاع العراقيون وسط شد الحبل بين طرفين: حكومة أغلبية (وطنية) أم حكومة توافقية تضم الجميع؟ وهذه كلها تعابير يضحكون بها على عقول الناس، فالواقع يحكي قصة من نوع آخر تعبرّ عن فشل النظام السياسي الحاكم من يوم إلى آخر ومن سنة إلى أخرى. يقول الواقع إنّ الطبقة السياسية العراقية تتصارع على السلطة والنفوذ في ما بينها. .. صحيحٌ أن هناك تحالفاً ثلاثياً يقودُه مقتدى الصدر، ويتكون من تياره الصدري، ومن الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني، ومن قيادات سنّية جديدة ممثلة بالحلبوسي والخنجر وغيرهما، بعد إقصاء السنّة الكبار، ومنهم أسامة النجيفي وطارق الهاشمي، وأن مشهد السنّة اليوم قد تخطّى حواجز عدة، بمباركة تركيا على حساب بقاء الحال على حاله في المحافظات السنية التي يعبث بها الآخرون، فإن البيت الشيعي منقسم على نفسه، ولم تنفع إرادة إيران مع مقتدى الصدر، كي يتوافق مع خصمه الذي يمثله "الإطار التنسيقي: المؤلف من نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وعمار الحكيم وحيدر العبادي، وهؤلاء هم العصا الغليظة في عجلة النظام الحاكم، وهم الذين أغلقوا عنق الزجاجة، وكانوا وراء انسداد مجاري العراق التنفسية!
العراق مهدّد في مصيره، وفي مستقبل أبناء شعبه، فهو باق ينسحق من الفساد وندرة الخدمات ومن مشكلاتٍ لا يعرف مداها إلا الله
العقدة المركبة وراء تنصيب رئيس للجمهورية الكردي هو الانقسام في البيت الكردي نفسه بين الحزبين الكبيرين أساساً. وأيضاً اهتراء التحالف القديم بين الشيعة والكرد على حساب السنة، كما جرى سابقاً منذ العام 2003. ورفض مقتدى الصدر الذي له أكثر من سبعين مقعداً برلمانياً أية بادرة ترفع من شأن المالكي، بتنصيبه نائباً لرئيس الجمهورية، ورفض البارزاني إبقاء برهم صالح في رئاسة الجمهورية دورة أخرى. وتهديدات "الإطار التنسيقي" بإشعال حرب أهلية في العراق! بحيث وصلت المهزلة إلى عنفوانها أن تعلن مندوبة الأمم المتحدة في العراق، بلاسخارست، أنّ الوضع السياسي لا يطاق في العراق، معلنة عن أسوأ العواقب، جرّاء اختلافات قيادات العراقيين السياسية للاستحواذ على السلطة.
هنا نتساءل: إلى متى تبقى أحوال العراق مأساوية يعاني منها الشعب العراقي، ببقاء نظام حكم فاسد، ويتلاعب بمصير العراق جوقة من رؤساء الكتل والأحزاب؟ ما مصداقية الانتخابات التي جرت قبل أشهر طوال عام 2021، واعتبروها مبكرة بسبب التسارع الزمني؟ هل سيبقى دور الأميركان كالمتفرّج على ماراثون هزيل وساخر كهذا، وهم الذين نصبوا المسرح، وأتوا بمثل هذه الوجوه لحكم العراق؟ أقول: سواء انحلّ هذا "الانسداد" أم لا، فإن بقاء هذه الطبقة السياسية في أيّ من مؤسسات البلاد التشريعية أو التنفيذية جريمة لا تغتفر، والعراق مهدّد في مصيره، وفي مستقبل أبناء شعبه، فهو باق ينسحق من الفساد وندرة الخدمات ومن مشكلاتٍ لا يعرف مداها إلا الله، وهؤلاء يتصارعون على السلطة في ما بينهم.