29 سبتمبر 2024
"الهاتف العربي"
على الرغم من أن الحديث عن "الهاتف العربي" في الغرب مبني على موقفٍ ثقافوي مسبق التجهيز والإخراج، إلا أن الوقائع أثبتت قربه من الصحّة عموماً. وصار من المتعارف عليه في الثقافة الشعبية الأقرب إلى الواقع أنه إن: مرَّ زيدٌ بعمروٍ، وتقاطعت نظراتهما، وتابع كل منهما سبيله، فسيكون زيدٌ عبر الشارع ليلاقي عمْراً. وربما من بعدها، سيكون عمروٌ غيّر الرصيف لتفادي زيد. وكما يمكن أن يصير أن عمْراً بصق في وجه زيد، أو أن زيداً لبط عمراً، أو أن عمْراً وزيداً تدحرجا متعاركين، أو أنهما تلقيا اعتداءً آثما من عنصرٍ ثالث، أو أن الحي تجمّع للتفريق بين زيدٍ وعمروٍ اللذين أدميا بعضهما بعضاً... سلسلة لا تنتهي من أكاذيب تم بناؤها على قصة حقيقية تقول إن زيداً مرَّ بعمروٍ.
"الهاتف العربي" إذاً يُشير إلى قدرة خارقة في التصوّر الإبداعي، بحيث يصبح حدثٌ عاديٌّ محوراً لحرب عالميةٍ ثالثة. وعدا عن أن هذا السرد مدعاة تسلية لكبار السن وللعاطلين ولمجالسي ناصيات الطرق، إلا أنه يؤثّر أيضاً في المحكيات التاريخية، فيعتبر السوريون، مثلاً، أن القاضي الفرنسي الذي حاكم الثائر إبراهيم هنانو، في ثلاثينات القرن الماضي، موجها له تهمة الإرهاب، نظر إليه وقال له، في نهاية مرافعة صميدعية: "أنت مُقاتل من أجل الحرية، وأنا أحكم ببراءتك". وفي رواية أخرى، ناداه القاضي بالبطل (...). تغرورق العيون بالدموع، وتلوك الألسنة الواقعة حتى أنها تصل إلى أن تكون مسجلةً في كتب بعض التاريخ. حصلت الواقعة من دون هذا التعليق من القاضي المحتل، بل تمت التبرئة بعد الاتفاق الفرنسي التركي، وبعدما كان هنانو مدعوماً من تركيا في ثورة جبل الزاوية. وليس من السلبي بالمطلق أن نجترع رواية تُظهر بطولة من نعتبرهم رموزاً، ولكن تلفيق الحدث يمكن أن يُفضي، أحياناً، إلى الإساءة إلى الرمز نفسه، فلم يكن يضير الزعيم هنانو أن يُشار إلى استغلاله التوتر القائم بين الجمهورية التركية الفتية والمُنتَدِب الفرنسي، والذي أفضى اتفاقهما فيما بعد إلى التنازل عن لواء إسكندرون السوري إلى هذه الجمهورية، والتي بدورها خفّفت من دعمها الثورة السورية حينذاك، أو على الأقل، للجانب السوري الذي كانت لها عليه "موانة". ألا يذكّرنا هذا الحدث القديم بجديدٍ ما؟ (...).
تعبير "الهاتف العربي" إذاً ليس في إشارة فقط إلى الإشاعات التي يتداولها الناس في حمام
السوق، بل هي أيضاً علامة مميّزة للسرد التاريخي وللمحكيّات التي يُبنى عليها وتتناقلها الأجيال.
استعيض، اليوم، عن هذا الهاتف الذي هرم، بوسائل التواصل الاجتماعي، وصار ما يمكن الاصطلاح على تسميته الفيسبوك العربي أو التويتر العربي. وبالتأكيد، فالإشاعات "المفسبكة" و"المتوترة" تكون ذات وقع أشد مضاضةً من مثيلتها المهتوفة عبر الأسلاك. فلقد صار من الممكن إرفاقها بصور وشرائط مصورة وأشكال بيانية من محض الخيال، أو من محض التقنيات الحديثة، أو من محض القطع واللصق. فالتكنولوجيا الحديثة أفادت بعضهم في صناعة الصواريخ أو ركوبها، وأفادت آخرين في إيجاد الشفاء لأمراضٍ قاتلة، وبعضاً أخيراً، فقد استفاد منها لنشر الشائعات والبطولات الزائفة، أو الأكاذيب الباطلة، أو الصور المركّبة، أو الوقائع التاريخية المفبركة، وإلى ما لا نهاية من المحتويات التي يمكن التلاعب بها وبرسائلها وبتفاصيلها.
صارت مرحلة "الفيسبوك العربي" أكثر ضرراً من نظيرتها التي كانت تعتمد فقط على "الهاتف العربي"، فصارت إمكانيات تشغيل الخيال أرحب، وصار بالإمكان زيادة التوابل من كل حدب وصوب. وأعطت إمكانية التعليق والمشاركة توالداً لا تستطيع اللحاق به لوغاريتمات الأرض الواسعة. فصار إن كتب أحدهم خبراً شهد أحداثه في مكان محدّد، فالتالي سيُضيف الصورة، والتي لا علاقة لها بالتأكيد بالخبر، وسيأتي ثالثهم ليحدّد أسماء الموجودين في عين المكان، ولو أنه يمكث في أقصى جغرافية الكرة الأرضية. وسيأتي رابعهم ليُشير إلى انتماءات المشاركين الدينية والعرقية والمذهبية. ولن يأنف خامسهم عن الإشارة إلى ارتباطات المذكورين آنفاً بالدول الأجنبية، صاحبة المصالح في المنطقة. وسينبري سابعهم للإشارة إلى أصول المشاركين العائلية والارتباط التاريخي لعائلاتهم بالقوى الاستعمارية ذات المصالح في منطقتنا الغنية العصيّة على الغزاة. متوالية هندسية لا قعر لها ستودي بالمتابع إلى نسيان أساس الخبر أو الحدث أو القول. وسيجد نفسه في بحر ظلماتٍ واسعٍ من الخيال الكاذب.
إذاً نحن نشهد تطوّر "ثقافة" الإشاعة من طورٍ تقليديٍ "ناشفٍ"، إلى طورٍ حداثيٍ متلوّنٍ بما تعطيه التكنولوجيا من فرص ومجالات لتوسيع الخيال/ الكذب، ولتغيير/ تشويه الحدث، مهما كان بسيطاً أو حتى لو كان معقداً. وصارت هناك مجموعات متخصصة بعينها تقوم بالمقارنات والتمحيصات، لتوضّح أكاذيب أو مبالغات ما يتم تناقله في هذا الفضاء الافتراضي. ولكن، سبق السيف العذل، فلا ينفع النفي اللاحق أو التصحيح الذي يلي الواقعة، لأن الذهنية البشرية تلتقط أول الخبر، وتنسى التبعات والتوابع.
ليس "الفيسبوك العربي" محصوراً بالعرب أو بمنطقتهم حتماً. ولكن، يصحّ به وبهم اللازمة الإعلانية المكرّرة: "ربما نحن لسنا الوحيدين. ولكن، بالتأكيد نحن الأفضل".
"الهاتف العربي" إذاً يُشير إلى قدرة خارقة في التصوّر الإبداعي، بحيث يصبح حدثٌ عاديٌّ محوراً لحرب عالميةٍ ثالثة. وعدا عن أن هذا السرد مدعاة تسلية لكبار السن وللعاطلين ولمجالسي ناصيات الطرق، إلا أنه يؤثّر أيضاً في المحكيات التاريخية، فيعتبر السوريون، مثلاً، أن القاضي الفرنسي الذي حاكم الثائر إبراهيم هنانو، في ثلاثينات القرن الماضي، موجها له تهمة الإرهاب، نظر إليه وقال له، في نهاية مرافعة صميدعية: "أنت مُقاتل من أجل الحرية، وأنا أحكم ببراءتك". وفي رواية أخرى، ناداه القاضي بالبطل (...). تغرورق العيون بالدموع، وتلوك الألسنة الواقعة حتى أنها تصل إلى أن تكون مسجلةً في كتب بعض التاريخ. حصلت الواقعة من دون هذا التعليق من القاضي المحتل، بل تمت التبرئة بعد الاتفاق الفرنسي التركي، وبعدما كان هنانو مدعوماً من تركيا في ثورة جبل الزاوية. وليس من السلبي بالمطلق أن نجترع رواية تُظهر بطولة من نعتبرهم رموزاً، ولكن تلفيق الحدث يمكن أن يُفضي، أحياناً، إلى الإساءة إلى الرمز نفسه، فلم يكن يضير الزعيم هنانو أن يُشار إلى استغلاله التوتر القائم بين الجمهورية التركية الفتية والمُنتَدِب الفرنسي، والذي أفضى اتفاقهما فيما بعد إلى التنازل عن لواء إسكندرون السوري إلى هذه الجمهورية، والتي بدورها خفّفت من دعمها الثورة السورية حينذاك، أو على الأقل، للجانب السوري الذي كانت لها عليه "موانة". ألا يذكّرنا هذا الحدث القديم بجديدٍ ما؟ (...).
تعبير "الهاتف العربي" إذاً ليس في إشارة فقط إلى الإشاعات التي يتداولها الناس في حمام
استعيض، اليوم، عن هذا الهاتف الذي هرم، بوسائل التواصل الاجتماعي، وصار ما يمكن الاصطلاح على تسميته الفيسبوك العربي أو التويتر العربي. وبالتأكيد، فالإشاعات "المفسبكة" و"المتوترة" تكون ذات وقع أشد مضاضةً من مثيلتها المهتوفة عبر الأسلاك. فلقد صار من الممكن إرفاقها بصور وشرائط مصورة وأشكال بيانية من محض الخيال، أو من محض التقنيات الحديثة، أو من محض القطع واللصق. فالتكنولوجيا الحديثة أفادت بعضهم في صناعة الصواريخ أو ركوبها، وأفادت آخرين في إيجاد الشفاء لأمراضٍ قاتلة، وبعضاً أخيراً، فقد استفاد منها لنشر الشائعات والبطولات الزائفة، أو الأكاذيب الباطلة، أو الصور المركّبة، أو الوقائع التاريخية المفبركة، وإلى ما لا نهاية من المحتويات التي يمكن التلاعب بها وبرسائلها وبتفاصيلها.
صارت مرحلة "الفيسبوك العربي" أكثر ضرراً من نظيرتها التي كانت تعتمد فقط على "الهاتف العربي"، فصارت إمكانيات تشغيل الخيال أرحب، وصار بالإمكان زيادة التوابل من كل حدب وصوب. وأعطت إمكانية التعليق والمشاركة توالداً لا تستطيع اللحاق به لوغاريتمات الأرض الواسعة. فصار إن كتب أحدهم خبراً شهد أحداثه في مكان محدّد، فالتالي سيُضيف الصورة، والتي لا علاقة لها بالتأكيد بالخبر، وسيأتي ثالثهم ليحدّد أسماء الموجودين في عين المكان، ولو أنه يمكث في أقصى جغرافية الكرة الأرضية. وسيأتي رابعهم ليُشير إلى انتماءات المشاركين الدينية والعرقية والمذهبية. ولن يأنف خامسهم عن الإشارة إلى ارتباطات المذكورين آنفاً بالدول الأجنبية، صاحبة المصالح في المنطقة. وسينبري سابعهم للإشارة إلى أصول المشاركين العائلية والارتباط التاريخي لعائلاتهم بالقوى الاستعمارية ذات المصالح في منطقتنا الغنية العصيّة على الغزاة. متوالية هندسية لا قعر لها ستودي بالمتابع إلى نسيان أساس الخبر أو الحدث أو القول. وسيجد نفسه في بحر ظلماتٍ واسعٍ من الخيال الكاذب.
إذاً نحن نشهد تطوّر "ثقافة" الإشاعة من طورٍ تقليديٍ "ناشفٍ"، إلى طورٍ حداثيٍ متلوّنٍ بما تعطيه التكنولوجيا من فرص ومجالات لتوسيع الخيال/ الكذب، ولتغيير/ تشويه الحدث، مهما كان بسيطاً أو حتى لو كان معقداً. وصارت هناك مجموعات متخصصة بعينها تقوم بالمقارنات والتمحيصات، لتوضّح أكاذيب أو مبالغات ما يتم تناقله في هذا الفضاء الافتراضي. ولكن، سبق السيف العذل، فلا ينفع النفي اللاحق أو التصحيح الذي يلي الواقعة، لأن الذهنية البشرية تلتقط أول الخبر، وتنسى التبعات والتوابع.
ليس "الفيسبوك العربي" محصوراً بالعرب أو بمنطقتهم حتماً. ولكن، يصحّ به وبهم اللازمة الإعلانية المكرّرة: "ربما نحن لسنا الوحيدين. ولكن، بالتأكيد نحن الأفضل".