نقد عقلية الفساد في تونس

22 اغسطس 2016
+ الخط -
بعد الكشف عن فضيحة اللوالب القلبية منتهية الصلاحية، التي هزت أركان وزارة الصحة في تونس، أخيراً، عادت قضايا الفساد لتتصدر المشهد التونسي، وتصبح حديث الساعة من جديد، بالنظر إلى عدد المتضرّرين (107) وخطورة الحادثة، باعتبار أن أثرها مباشر على صحة الناس. وبغض النظر عن توقيت تفجير هاته الفضيحة، حيث يذهب بعضهم إلى التركيز على التوقيت، بوصفه يندرج ضمن الصراعات الداخلية لحزب نداء تونس، وإبعاد وزير الصحة عن أية تشكيلة حكومية مستقبلية، بل والقضاء على مستقبله السياسي، فإن هذا لا ينفي أن الحدث كان بمثابة الشجرة التي تحجب الغابة عن حالة مستشريةٍ من الفساد الذي يمتد إلى أعماق المؤسسات الحكومية والرسمية التونسية، فقضايا الفساد التي تم كشفها أخيراً، في وزارة الصحة، ليست إلا جبل الجليد من منظومة فسادٍ متكاملةٍ، امتدت واستحكمت حلقاتها واشتدت علاقاتها في الأوساط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأصبحت مقاومتها تقتضي ضرباً من إعادة بناء العقلية للمواطن التونسي، وليس فقط مجرد اتخاذ قراراتٍ جزئية، قد تكشف بعض الأورام، لكنها بالتأكيد لن تعالج المرض.
المشكلة الأعقد في مكافحة الفساد في تونس تحوله إلى جزء من المشهد، وتطبعه مع الأوضاع، إلى درجة أنه أصبح جزءاً من اليومي المعيش، حيث لم يعد من قبيل ما ينبغي استنكاره أو رفضه، بل قد يعتبره بعضهم من أشكال الشطارة والذكاء. وفي السياق نفسه، كان لهذا النمط من التصورات امتداداته على طبيعة المخيال الشعبي لشخصية رجل السياسة، فهو من ناحيةٍ يرتاب فيه الناس بوصفه كاذباً محتالاً فاسداً. وفي الوقت نفسه، يميل المزاج العام إلى الاعتقاد بأن شخصيةً لا تتوفر فيها مثل هذه الملامح، لا تصلح لأن تكون شخصيةً سياسية، أو لأن تدير الشأن العام. وقد لعب الإعلام التونسي دوراً خطيرا في ترويج مثل هذا الخلل في التفكير، حيث تم التركيز على منطق أن المطلوب لشخصية السياسي ليس أن يكون نظيف اليد، منضبطاً للثوابت العامة للقانون، بقدر ما كان النموذج الذي يتم ترويجه هو صورة الشخص الخبيث القادر على التلاعب بالجميع، وتحقيق المصلحة. وقد زاد التركيز على مثل هذا الخطاب بعد الثورة، ضمن سياقٍ شاملٍ لصناعة رأي عام، يشعر بالحنين لزمن المخلوع، ولأسرته المتورّطة في الفساد، تمهيدا للمصالحة مع هؤلاء الفاسدين، وهو ما حصل فعلاً، حيث سرعان ما خفتت تدريجيا لهجة المطالبة بالمحاسبة، لتحل محلها لغة المصالحة ومجاوزة أحقاد الماضي.

وقد يبدو هذا الخطاب سليماً في ظاهره، ما في ذلك ريب، فلا تنجح الشعوب إلا من خلال منطق المصالحة، وليس بلغة الأحقاد والتصفيات. ولكن، يظل هذا الأمر تابعاً لمنطق الممارسة السياسية، أعني أنه ليس من المطلوب سياسياً التشفي من أحد، أو الانتقام بصورة غرائزية، من دون أن يعني هذا إلغاء محاسبة الذين اقترفوا خطايا في حق المجتمع، وهذا مجال القضاء، فليس من الحكمة في شيء العفو عن لصوص المال العام، أو الذين استولوا على مليارات الدينارات، وامتلأت بطونهم ليجدوا أنفسهم، في النهاية، يتمتعون بأموالهم، من دون حساب أو عقاب، وهو أمر سيغري أمثالهم للاتجاه نحو الفعل نفسه، فمن أمِن العقوبة بالتأكيد لن ينصاع إلى القانون، ولن يلتزم بالمبادئ العامة التي تنظم المجتمع.
جاء قانون المصالحة الوطنية الشاملة ليتحول إلى فرصةٍ للنجاة، بالنسبة لكثيرين من الفاسدين، ثبت تورطهم في السطو على المال العام. والمشكلة أن قضية الفساد في تونس أصبحت اليوم أعقد من أن تكون مجرد مجموعة من رجال الأعمال، ممن ينبغي عليهم تسوية أوضاعهم ومخالفاتهم القانونية والضريبية مع الدولة، وإنما في ذاك الفساد الذي استشرى في أركان الطبقة السياسية، فحتى الذين كانوا من أكثر الناس ثوريةً وحماسةً وجدوا أنفسهم في أحضان قوى مالية كبرى، فرأس المال في تونس تحول إلى حاكم فعلي، في ظل ضعف الدولة، وغياب نظام سياسي يحفظ للدولة قوتها التعديلية، وقدرتها على ضرب الاحتكارات، وفرض التوازنات خدمة للصالح العام. فبالتوازي مع النفوذ القوي لاتحاد العمال، وهو نفوذ مصدره النقابات الكبرى التي تتشكل من موظفي القطاع العام، وهو ما يفسر ضعفه في أية مفاوضاتٍ مع اتحاد الأعراف، نجد أن الأخير يتمتع بحضور قوي في مجلس نواب الشعب، وفي الأحزاب الكبرى والمؤثرة. وبكل تأكيد، في الحكومات المختلفة، وبالتالي، في اتخاذ القرارات المهمة.
مكافحة الفساد في تونس أعمق من أن تكون مجرد صراع مع رجال أعمالٍ مورّطين في التهرّب الضريبي، أو الاستيلاء على قروض بنكية من دون ضمانات، وإنما الأزمة تمتد داخل الإدارة التونسية نفسها، حيث أصبحت قضايا الرشوة والمحسوبية جزءاً من الخبز اليومي للمواطن، بل لا تخلو المنظمات المدنية والأحزاب السياسية نفسها من شبهات سوء تصرف، فلا أحد يعرف ميزانياتها، ولا مواردها، ولا أوجه صرف هذه الميزانيات، ففي غياب تام للشفافية والوضوح لدى هذه الهيئات التي تعمل على توعية المواطن، أو هكذا يفترض منها، يصبح من الصعب التقليص من حالات الفساد، أو على الأقل التحكّم في منسوبها. حالة من الفساد قد لا تكون الأكبر في المنطقة العربية، لكنها خطيرة إلى الحد الذي يجعل منها إحدى أكبر العوائق أمام بناء ديمقراطية سليمة، وقادرة على الاستمرار.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.