الانتخابات الأفريقية: وَهْمُ الديمقراطية

11 يوليو 2024
+ الخط -

منذ بدأت موجة التحوّل الديمقراطي تجتاح القارّة الأفريقية، وإعادة إدخال التعدّدية الحزبية والانتخابات التنافسية في معظم بلدان القارّة، ظلّ سؤال مركزي رافق هذه التحوّلات: هل ساهم تعميم العمليات الانتخابية في ترسيخ الديمقراطية، أم أنّها، على العكس، كانت مُجرّد واجهةٍ تسمح بالحفاظ على حكم فئاتٍ سلطويةٍ تتغيّر خطاباتها من دون أن تتغيّر ممارساتها؟

بداية من عام 2000، أجريت انتخابات مُتعدّدة الأحزاب في 49 دولة من أصل 53 في القارّة، وهكذا يبدو أنّ الديمقراطية الانتخابية قد ترسّخت في عدة بلدان أفريقية، أو في الأقلّ جزئياً. وللاقتناع بهذا، يكفي أن نرى مدى البراعة والمهارة التي استحوذت بهما النخب السياسية الأفريقية على مفردات الديمقراطية والتعدّدية والتصويت الحرّ. واليوم، يزعم الزعماء الأفارقة كلّهم تقريباً، بمن فيهم الانقلابيون، إنّهم منتخبون من الشعب، ولا يمكنهم أن يفعلوا غير ذلك.

يمكن أن نلمس في هذا الالتزام الرسمي، في الأقلّ بالقاعدة الديمقراطية، أثرَ الضغط الدولي، بخاصّة من الجهات المانحة. وفي مواجهة رغبة القوى الغربية في جعل مساعدات التنمية مشروطةً بالممارسة الديمقراطية، ولو شكلياً، كان على النخب الحاكمة أن تظهر بصورة الأنظمة التي تستمدّ شرعيّتها من صناديق الاقتراع، ولإعادة إضفاء الشرعية على أنظمتهم المتآكلة، و"إعادة اختراع" أنفسهم مروّجين الديمقراطية. وعلى هذا، نستطيع أن نفهم إصرار أنظمة سلطوية مُغلقة على الاستخدام "الوظيفي" للانتخابات، كما يجري في دولٍ مثل توغو ومصر.

لا تزال الممارسات السياسية والاجتماعية في غالبية الدول الأفريقية بعيدة كل البعد عن معايير الانتخابات الحرّة والتنافسية، وهو معيار الديمقراطية التمثيلية. ويتجلّى ذلك من خلال مثال هؤلاء الحُكّام الوافدين من عصر حُكم الفرد الواحد،  مدنياً كان أو عسكرياً، الذين تمكّنوا من تجاوز انتفاضات شعبية أو محاولات إصلاحية، للحفاظ على النُخْبَة الحاكمة نفسها، وإن تغيّرت أسماء من يجلس في أعلى هرم السلطة. ومن خلال الانتخابات، يمكن لهذه النُخَب الحاكمة الاعتماد في سعيها إلى الحفاظ على السلطة على وسائل الدولة، وعلى موظّفيها، الذين يصبحون وكلاء انتخابيين لمُرشّح السلطة، وعلى مواردها الاقتصادية، من خلال إدارة الدولة، باعتبارها من ممتلكاتهم الخاصّة. وفي ظلّ هذا الفارق في الموارد بين المُرشَّحين، يصبح إجراء انتخاباتٍ تنافسيةٍ غير ممكن.

يزعم الزعماء الأفارقة كلّهم تقريباً، بمن فيهم الانقلابيون، إنّهم منتخبون من الشعب

 

على الرغم من سوداوية المشهد العام، لا يمكن إنكار أنّ القارّة شهدت نجاحات ديمقراطية حقيقية، فتؤدّي الانتخابات الشفّافة والسلمية، بشكلٍ لا جدال فيه، بانتظام إلى نتائج مشروعة تعترف بها الغالبية العظمى من النُخَب السياسية والمواطنين. ومن الواضح أنّ أحد الأمثلة الأكثر إقناعاً هو جنوب أفريقيا، في بلدٍ تعرّضت فيه الأغلبية السوداء للتمييز القانوني، ولم تتمكّن من المشاركة في الانتخابات الوطنية، وحيث حُظرت المنظّمات السياسية المناهضة للفصل العنصري، أصبحت الانتخابات اليوم حرّة تماماً ومفتوحة وغير عنيفة. و"المعجزة الجنوب أفريقية" ليست حالة فريدة من نوعها، فقد عرفت دول، مثل تونس وغانا وبوتسوانا وناميبيا والسنغال، من بين بلدان أخرى، تجارب انتقال ديمقراطي، إذ تتوالى الانتخابات المُنتَظَمة و"النظيفة" من دون إطلاق رصاصة واحدة. ونلاحظ أيضاً أنّ حالات التناوب الديمقراطي، التي لم يكن من الممكن تصوّرها حتّى وقت قريب، قد تضاعَفت، كما حدث في السنغال وزامبيا وغانا وبنين، أو أخيراً في غينيا وساحل العاج، على الرغم من الانتكاسات التي عرفتها بعض هذه الدول، إذ تعاني التجربة التونسية أزمةً حقيقيةً تهدّد مكاسبها الديمقراطية منذ ما تسمّى إجراءات 25 يوليو (2021)، فيما شهدت مالي مصادرة مسارها الديمقراطي عبر انقلاب عسكري أنهى حكم المدنيين.

يحاول أنصار الأنظمة السلطوية الأفريقية تبرير ما تشهده القارّة من تراجعٍ في مجال الحرّيات والانتخابات الشفّافة بالقول إنّه لا يواجه سكّان أفريقيا اليوم نموذج واحد مفروض وجامد، وهو نموذج الديمقراطية الغربية "المستوردة"، لكن لديهم مجموعة من النماذج المختلفة، التي يمكنهم تكييفها وفقاً لمصالح الشعوب، وأنّ هناك انتخاباتٍ كثيرة تجري في أفريقيا غير كاملة بالمقارنة مع القوانين الغربية. ولكن، ربما يكون هذا هو جوهر المشكلة، أي ميل المراقب الغربي إلى قياس الانتخابات الأفريقية قياساً بالمعيار الغربي، الذي لا يعدو أن يكون مُجرَّد مثالٍ غير عملي لا يتناسب مع واقع القارّة. غير أنّ ما يتجاهله هؤلاء أنّ القوى الغربية ذاتها تتجاهل استمرار الأنظمة السلطوية، ما دامت تخدم مصالحها، وأنّ السؤال الذي ينبغي طرحه، ليس البحث في التعريف النظري للديمقراطية، بقدر ما يتعلّق بحقّ الشعوب في اختيار من يحكمها، وهذا لا يكون إلا عبر انتخاباتٍ نزيهة، وفي ظلّ مناخٍ يضمن حرّية التعبير للجميع. وهنا، يتماثل الإنسان الأفريقي مع غيره من البشر، مهما اختلفت الملابسات الاجتماعية والثقافية التي تحيط به.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.