داعش والتحوّلات الجديدة

22 اغسطس 2016
+ الخط -
لا تخفى على متابع تنظيم الدولة الإسلامية الخسائر الكبيرة التي مُنيَ بها، سواء على صعيد المقاتلين وبعض القيادات، أو على صعيد فقدانه مساحاتٍ واسعة من التي كانت تحت سيطرته وحكمه، حيث خسر في العراق، في الربع الأول من العام الحالي، خمس بلدات مهمة في الأنبار، الرمادي وهيت وكبيسة والرطبة والفلوجة. وفي سورية، خسر مدينة تدمر التي سيطر عليها عشرة أشهر، وكذا مدينة الشدادي في محافظة الحسكة، كما تمكّنت قوات حماية الشعب الكردية من طرد التنظيم من مدينة تل أبيض على الحدود التركية، وكانت أكبر خسائره في مدينة عين العرب (كوباني)، بداية 2015 بقصف جوي من مقاتلات التحالف الدولي، وقتال على الأرض من القوات الكردية، ثم خسر تنظيم داعش مدينة منبج التي يمرّ عبرها أحد المعابر المهمة بين سورية وتركيا. وتشكك كلّ هذه التراجعات بشعاره عن (دولته) "باقية وتتمدّد". صحيح أن الحرب كرّ وفرّ، ولا سيما في البلدين اللذين يتخذهما التنظيم قاعدة للتوسُّع، العراق وسورية، ولا سيما الأخيرة التي درجة التذبذب فيها أكبر، وتطورات القوة فيها أكثر دراماتيكية، لكن مثل هذه الخسارات المتواترة والمهمة تشير إلى طبيعة المأزق الذي يمرُّ فيه التنظيم المُغالي في التطرُّف، والمغالي في التطلُّعات، من دون سنَدٍ موضوعي كافٍ، ومن دون مساندة، أو تعاطف ضروري من الناس الذين يقعون تحت سيطرته.
والتحوُّل الأخطر الذي يضاعف الخطر الوجودي على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ماثلٌ في الساحة السورية، فمحاربة الأكراد له تصبّ في بلورة وجودهم السياسي، حيث التوافق التركي الروسي، ثم التوافق التركي الإيراني، وكلُّ هذه الدول الثلاث تقاطعت مصالحُها على منع نشوء كيان كردي. وبالطبع، منْع أيِّ عوامل مساعدة، أو ممهِّدة لنشوئه، وذلك بالحدِّ من نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يعتبر الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني التي تصنّفه أنقرة تنظيماً إرهابياً، وتستشعر خطراً حقيقياً من تطلُّعاته الاستقلالية التاريخية، وقد خاضت معه صراعاً مريراً، ولا تزال.
يزداد هذا الخطر على "داعش"، ولا سيما بعد الإنجازات التي حقّقتها قواتُ سورية الديمقراطية (تشكِّل "قواتُ حماية الشعب" عمودَها الفقري، والموالية، أو التابعة لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا)، على الأرض في شمال سورية، إذ استعادت، وبدعمٍ من الولايات المتحدة السيطرة على منبج من "داعش". وبعد أن كشفت "قوات سورية" عن نيّتها ربط منبج بعفرين والسيطرة على مدينة الباب، وبعد تشكيل "مجلس الباب العسكري" تمهيداً لتكرار العملية التي جرت في منبج ضد "داعش"، وهو ما يعزِّز مخاوف أنقرة من ربط الأقاليم الكردية شرق نهر الفرات وغربه، وقيام "كردستان سورية"؛ ما يشجِّع أكراد تركيا على فعل الأمر نفسه.

ولذلك، تتحرّك أنقرة التي تواجه خطراً كردياً قريباً مع طهران التي تواجه خطراً كردياً يستأنف نشاطه المسلّح، من خلال الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني الذي قرَّر إعادة مقاتليه إلى مناطق كردستان إيران من إقليم كردستان العراق، ليتجدّد التحدّي الكردي التاريخي، مع إيران، أيضا.
تتحرّك الدولتان (تركيا وإيران) سياسياً، بتثبيت مواقف رافضة أيِّ تمهيد لإنشاء كياناتٍ كردية، في سورية، في المقام الأول، وهي مواقفُ مدعومةٌ بموقعيّة هاتين الدولتين الجيوسياسية، حيث صرّح رئيس الوزراء التركي، بنعلي يلدريم، إن أكثر العارفين بمشكلات المنطقة هي الدول الإقليمية، وأكثر العارفين بين الدول الإقليمية بمشكلات المنطقة، هما تركيا وإيران، وفي النهاية، فإن حلَّ الأزمة سيأتي على يد هذه الدول".
ولذلك فإنّ تحرُّكا عسكرياً، مباشراً أو غير مباشر، قد يكون بإنشاء قوّة عسكرية مقرّبة من تركيا؛ لمحاربة داعش، إجراءٌ أكثر نجاعة؛ أمام استمرار تكريس القوى الكردية الساعية إلى كيان فيدرالي في سورية؛ تمهيداً لاستقلالها عنها. وفي هذا السياق، نفهم ما أشار إليه مصدر سوري معارض "مقرّب من العقل التركي الحاكم" لصحيفة العربي الجديد عن احتمال أن تتولّى قواتٌ تدعمها تركيا مهام تحرير جرابلس من "داعش"، على اعتبار أن تركُّز مقاتلي التنظيم في هذه المدينة يزيد الضغوط على أنقرة نفسها؛ نظراً لأنها تحاذي الحدود التركية.
وما حرّك هذا التحوُّل التركي في الأولويات التي كانت تتقدّمها إزاحةُ بشار الأسد، في أيّ حل في سورية، أنَّ أنقرة لمست ليس فقط تغاضياً أميركياً، وغربياً، عموماً، عن التطلُّعات الكردية بالاستقلال عن تركيا، بل تغذيةً لهذه التطلُّعات، باعتماد واشنطن على القوة الكردية، قوّةً مركزية في شمال سورية، حيث أسندت إليها مهام حيوية، يفضي النجاحُ فيها إلى إنجازاتٍ استراتيجية، بأن تسمح لها بالتمركز، بعد أن سمحت لها بالتفوق العسكري، والصفة الأكثر حسماً في طبيعة الصراع في سورية هي الصفة العسكرية، فضلاً عن أن هذه المجموعة (قوات سورية الديمقراطية) التي تشمل عناصر عربية غير كبيرة التأثير، وهي، بهذه الصفة الديمقراطية، النقيض الجاذب (ولو على مستوى الشعار) الذي يُظهِر قبْحَ نقيضه، في "داعش".
ولكن، ثمة نقطة في عمق المسألة، هي أن التحالف المدفوع إلى العمل النَّشِط، بين تركيا وإيران، كدولتين إقليميتين، وروسيا كدولة عالمية ضالعة في الصراع في سورية، وعلى سورية، أنَّ هذا التحالف يفضي إلى محاربة "داعش"، لتمنع تركيا وإيران الأكراد من التذرّع به، بما يفضي إلى مزيدٍ من التقوية لطموحاتهم الانفصالية، أو الاستقلالية. أما روسيا، فإنها تأمل، بهذا التعاون، تلافي، أو تدارك، مدّ الحركات الجهادية، أو الإرهابية، إلى جمهوريات آسيا الوسطى، مجالها الحيوي، وإليها نفسها، إلى أوساط المسلمين فيها. وفيما تنشط تركيا وإيران في محاربة داعش، وفي هذا مصلحة روسية، تقبل موسكو، ولا يضرّها أن تُسهِم في منع تضخّم الوجود الكردي.
إلا أن التعاون في محاربة "داعش" عسكرياً ولوجستياً لا يعني تلقائياً أنَّ دوافع تخلُّقه، ثم تجدُّده، قد تمّ القضاء عليها، فالذي أسهم، على نحو كبير، في ازدهار فكر "داعش"، وتنامي شعبيّته، لدى أوساطٍ معينة من السُّنة، هو في الأساس الشعور بالتهميش، بل بالظلم، والقلق على الوجود، وعلى صبغة البلدين اللذين جمعهما التنظيم معا: (العراق والشام)، حيث النفوذ الأكبر إنما هو لـ (الشيعيَّة السياسية) الموالية لإيران. ولذلك، حرص رئيس الوزراء التركي، يلدريم، على أن الحل في سورية يجب أن لا يكون بتغلُّب طائفة على الحكم والنفوذ.
ويبدو منع نشوء كيان كردي في سورية مفيداً لبشار الأسد؛ كونه يقدّم هذا الهدف، لدى تركيا، على هدف إسقاطه، ومن ثمّ يدفع تركيا إلى إسقاط ذريعة "داعش"، أو الحدّ من توظيفها؛ لتعزيز مرتكزات الأكراد على الأرض، إلا أن هاجس الاستقلال الكردي، وخطر داعش، لم يتفعّلا، إلا نتيجة تكاثر القوى المناهضة للأسد، ولأزمة الشرعية العميقة التي راكمتها الحربُ في سورية، وطريقة تعاطي النظام معها، فالأكراد و"داعش"، على الاختلاف الجوهري بينهما، تداعياتٌ لفشل الدولة المركزية، بقيادة الأسد وطواقمه الأمنية والحزبية؛ فلذلك إن قبلت تركيا، عملياً، بتأجيل إنهاء حقبة الأسد، فإن الحلّ الذي ستظل مُصرّة عليه، لمصلحة تدابير أكثر نجاعةً وديمومةً، هو المضيّ في الانتقال السياسي إلى منتهاه، بسلطةٍ لا تتغلّب عليها، أو تستأثر بها طائفة، أو أقلية، وتملك صلاحياتٍ حقيقية، وليس مجرّد تطعيم لهذا النظام بعناصر من المعارضة التي ترتضيها موسكو وإيران. وإن لم يتحقق هذا، فإن شبح تقسيم سورية سيظل قائماً، ولا سيما إذا ضمنت المصالح الروسية التي توسعت في سورية، بعد الانخراط الروسي الكبير فيها، وأمكن تحجيم القوى التي تخشى موسكو امتداداتها من "داعش" وجيش الفتح/ النصرة سابقاً، وغيرهما. وإن لم يتحقّق هذا الانتقال السياسي الحقيقي، فإن شبح تقسيم سورية سيظل قائماً.