القتال في الخرطوم وغزّة... المشروعية والجدوى

21 يونيو 2024

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

غلبت أخبار غزّة على ما يجري في السودان، وليس هنا محلُّ الإفاضة في أسباب تفاوُت الاهتمام، والتغطية الإعلامية، مع أحقيَّةٍ لا تنازُعَ فيها، توجِب استحضارًا يليقُ بهذا الجرح النازف، والفظيع، على يد من يُفترَض أنهم من أبناء البلد، والشعب؛ من قوَّات الدعم السريع والجيش السوداني.

ومع اختلاف أسباب الصراع، في فلسطين، وغزّة، من جانب، والسودان، من جانب آخر، فإن الآثار متقاربة؛ حيث اضطراب الحياة، والتهجير، والنزوح، وقتْل الأبرياء، والاستباحة، والمجاعة التي تهدِّد حياة الألوف من المدنيين.

غير أن الفارق الجوهري أنَّ العدو في غزة خارجيٌّ، واضحٌ، ومزمن، يتّفق على خطورته، وسفور أهدافه، الغالبيةُ العظمى من العرب والمسلمين، مضافاً إليهم، جماعاتٌ وأفراد، على مستوى العالم، من شرقه إلى غربه، وهو الاحتلال الإسرائيلي الذي كشَّر عن وحشيَّته، وأماط اللثام عن أهدافه المستقبلية التي تهدف إلى استئصال الوجود الفلسطيني.

وأما في السودان، فهم الإخوة الأعداء. ويحسم هذا النطاق الداخلي للصراع من وضوحه، لدى غير المدقِّق، أو المتابع متابعةً كافية، وهؤلاء ليسوا قلَّة. وفي المجمل يتراءى للناظر نظرةً عامة أنه صراع على السلطة، بعد محاولاتٍ شعبية ونخبوية؛ للخروج من آثار حُكْم النظام السابق، وهو حُكْم عسكري، لا يحظى بصفة تمثيلية للشعب السوداني، فضلاً عن مشاركته أنظمةً دكتاتورية عربية مثيلة، أو شبيهة عطَّلت التنمية، وجمَّدت التطور، طوال فترة قبضها على السلطة. وقد استمرّت، منذ سنة 1989 حتى 2019، وبعد أن فشلت القوى السياسية، والمدَنيَّة، أو أُفشِلت، في الوصول إلى صيغة مناسبة للحُكْم، والتشارُك فيه، بتأثير من سلطة الجيش، وتأثيرات خارجية، آلت البلادُ إلى هذا الصراع الدموي التخريبي المرير، الذي أُريد منه، ضمن أهداف أخرى، إلى إحباط روح التغيير، حتى تمنِّي الرجوع إلى أيامٍ مثل أيام حكم عمر البشير. وها نحن نشهد حلقة شرِّيرة، لا تبدو قريبة من الحسم، يصطلي بنارها سودانيون، صُودِر رأيُهم، ودفعوا أبهظ الثمن.

لا يبدو أن هاجس السلطة هو الشاغل الأكبر لحركة حماس

أما حرب غزّة، فلعل أهمَّ مزاياها أنها، من حيث أساسها، ومسوِّغها المبدئي، لا غبار عليها، بل هي محلُّ تقديرٍ وتمجيد؛ لكونها تستجمع شتات الآراء، إذ هي تستهدف عدوّاً لا ينجو من مخاطره أحدٌ في فلسطين، سواء كان في غزّة، أو في الضفة الغربية والقدس، وفي مجمل فلسطين، وحتى شعوب عربية وبلادها ليست في مأمنٍ من شروره وتهديداته التوسُّعية، وتحديداً بعد صعود اليمين المتطرّف، وفرْضِه فكرَه وأهدافَه على حكومة رئيس حكومة الاحتلال الراهنة، بزعامة بنيامين نتنياهو.

وبرغم مشروعيّة المواجهة من حيث المبدأ، إلا أن اختلافاتٍ تعتريها، لجهة التطوُّرات والمخاطر، ولجهة تداعيات الحرب التي فوق طاقة البشر، وبسبب استفراد الاحتلال بأهل غزّة؛ تقتيلاً وتدميراً وانتهاكاً، وتجويعاً، حتى الموت، من دون أن يأبه الاحتلال لصورته أمام أعين العالم، ومؤسّساته الدولية والحقوقية والإنسانية.

وهنا يستشعر قسمٌ من فلسطينيي غزّة أنهم دُفِعوا، وليست هذه المرَّة الأولى، إلى صدارة مواجهةٍ دواعيها وأهدافها أكبرُ منهم، وحدَهم، فهل هذه الكتلة البشرية المُتْعَبة والمعانية من حصار طويل، وحروب متعاقبة، هي المسؤولة، وحدَها، عن صدِّ هذا الخطر، عن فلسطين، وعن القدس والمسجد الأقصى، والعرب والمسلمين؟

أظهرت "حماس" وحركات المقاومة التزاماً مسؤولاً، تجلَّى في معاملة المحتجزين الإسرائيليين

لا شك، أن الجواب: لا، فهذا الخطر الاحتلالي التوسُّعي الذي تدعمه دولٌ كثيرة في الغرب، وفي مقدَّمتها الدولة الأقوى، أميركا، لا تكافئه غزّة، ولا تكون ندَّه الوجودي، ما دام هو يراها حرباً وجودية، لا تكون ندَّه الوجودي حركاتُ المقاومة في غزّة، والحاضنة الاجتماعية، مع أن هذه الجماعات المقاومة، بعنادها، العجيب، والمبهر، قاربت أن تكون لجيش الاحتلال محرِجةً، ومستنزِفةً، ومنبِّهةً خلافاته العميقة؛ السياسية، والأيديولوجية.

ومما يدلُّ على أن عملية طوفان الأقصى لم تحدُث في الفراغ، وأن لها وجاهتَها، وموقعيَّتَها، هذه التأثيراتُ التي لا تزال تُحدِثُها في المنطقة، وفي العالم، وفي دولة الاحتلال نفسها، وإنَّ تفاعلاتها تكاد تكون غير محدودة، أفقيّاً وعموديّاً، في الوعي، وفي الواقع.

وفي الفروق بين ما يجري في السودان والحاصل في غزّة أن حركة حماس وحركات المقاومة ليست بعيدة عن شعبها، بل هي ملتحمة به، ولا يزال خيار العمل المسلَّح، بعد كل هذا التدمير، يحظى بتأييد غير قليل في أوساط الغزيِّين، بحسب استطلاع رأي أخير للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمَسْحيَّة. وبحسب الاستطلاع، جاء تأييد المقاومة مرتفعاً. وفي ما يتعلق بالجهة التي تستحق اللوم، يظهر أن 64% يلومون الاحتلال الإسرائيلي على معاناة سكان القطاع، و22% يلومون الولايات المتحدة، و6% يلومون السلطة الفلسطينية، و8% فقط يلومون "حماس".

لا جدال في حقِّ الشعب الواقع تحت الاحتلال أنْ يقاوم محتلَّه، فيما تحفُّ أطرافًا سودانية تُهَمُ جرائم حرب، أو جرائم وطنية، بحقِّ بلدهم وشعبهم

ولا يبدو أن هاجس السلطة هو الشاغل الأكبر لحركة حماس، إذ قبِلت المغامرة عليها، بهذه الضربة التي وحَّدت كيان العدو، بقواه التي تنافرت، قبل السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، على خلفية هُويَّة الدولة والإصلاحات القضائية؛ اتّحدت على القضاء على "حماس" وحُكْمِها، ثم لمَّا لم تنل مُرادَها، عادت إلى فرقة سابقة، وأعمق، فيما لا تصل فئاتٌ تحاول أن تكون بديلة، أو يُراد لها ذلك، إلى قيادة الشعب، أو تأليبه على "حماس".

وفيما يستبيح المتقاتلون على أرض السودان دماء الناس، ويضيع بين أصوات رصاصهم استقرار البلد، ما حمل الأمم المتحدة على إدراج الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتحاربين في السودان في قائمتها السوداء المتعلقة بانتهاك حقوق الأطفال في النزاعات والحروب، يتمسَّك المقاتلون، في غزّة، بتوقيع اتفاق، وإبرام صفقة تبادل الأسرى، بشرط وقف إطلاق نار دائم.

وعلى الصعيد الأخلاقي، أظهرت "حماس" وحركات المقاومة التزاماً مسؤولاً، تجلَّى في معاملة المحتجزين الإسرائيليين، ومنهم عسكريون، مفنِّدةً مزاعمَ انتهاك كرامتهم، بأيِّ شكل، فيما تتكاثر الأخبار المفجعة عن بشاعة ما تفعله قوات الدعم السريع في أبناء شعبها ممن لا ناقة لهم، في هذا الصراع، ولا جمل.

وبعد، الفرقُ جوهريٌّ، ظاهرٌ في وجود قضية، أو انعدامها، وفي العدالة الأكيدة في موقف المقاومة في غزّة، مقابل المآرب الضيِّقة، أو غير البريئة من التبعية الخارجية، لدى طرفي القتال في السودان؛ فلا جدال على حقِّ الشعب الواقع تحت الاحتلال أنْ يقاوم محتلَّه، فيما تحفُّ أطرافاً سودانية تُهَمُ جرائم حرب، أو جرائم وطنية، بحقِّ بلدهم وشعبهم، من دون أن يكون ثمَّة بوادر نجاة من هذه الدائرة الإجرامية العبثية.