عن اختراق إيراني لقطاع غزة

02 يوليو 2016
+ الخط -
في زيارته طهران، مطلع شهر مايو/ أيار الماضي، صرّح زعيم حركة الجهاد الإسلامي، رمضان شلّح، أن الدفاع عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو دفاع عن الإسلام. وكان شلح على رأس وفد من حركته، حظي باستقبالٍ على أعلى المستويات، شمل المرجع آية الله علي خامئني. ويعتبر إسباغ طابعٍ ديني على سياسات إيران، وتصوير الإسلام مُمثلاً حصراً بالجمهورية الإسلامية، قفزةً كبيرةً لحركة الجهاد التي شهدت، في سنواتٍ سابقة، فتوراً في علاقاتها مع طهران، على قاعدة رفض الحركة التأييد الأوتوماتيكي للسياسات الإيرانية. كما شهدت الفترة القريبة الماضية ما عُرف، على نطاق واسع في وسائل الإعلام، بأزمةٍ ماليةٍ خانقةٍ عرفتها الحركة التي جدّدت علاقات سابقة بطهران، مع "تطويرٍ" لهذه العلاقات، بلغ، كما في تصريح شلّح، قوله إن الجمهورية الإسلامية والإسلام شيء واحد، وهي العبارة نفسها التي تردّدها مليشيات عراقية ويمنية ولبنانية تتبع طهران، وتدور في فلكها، وتنشر سياستها المذهبية.
منذ العام 2011، ظهرت في قطاع غزة حركة تحمل اسم الصابرين، وتجاهر بولائها لطهران، وقد حرصت "الجهاد الإسلامي" على النأي بنفسها عن هذه الحركة، وأشاعت أن زعيمها، هشام سالم، قيادي مفصول منها. وتنشط "الصابرين" في المجال الاجتماعي في أوساط تجمعات الأيتام وذوي الأسرى، وتقدّم لها خدماتٍ متنوعة، تحت راية الولاء لطهران.
تتجنب حركة حماس، صاحبة السلطة في قطاع غزة، الصدام مع "الصابرين" ومع غيرها من الجمعيات، مثل جمعية الإحسان وغدير ورياض الصالحين وأرض الرباط وآل البيت، وتخوض حملة "توعيةٍ" ضدها. والحال أن التوعية السياسية هي التي تتقدّم، في الأهمية، على أية "توعيةٍ" أخرى. ويرى متابعون كثر أن قطاع غزة بات يشهد موجة تشيّع برعاية طهران، منذ العام 2006، مع أجواء حرب تموز على حزب الله في لبنان، وما أثارته تلك الحرب من تعاطفٍ وتضامنٍ مع حزب الله آنذاك، إلا أن الأمر أخذ، بعدئذٍ، طابع النشاط المنظم الذي تزول فيه الحدود بين ما هو ديني أو مذهبي وما هو سياسي. وتاريخياً، لم يشهد المجتمع الفلسطيني ظاهرة طائفية، لكون المذهب السني هو السائد، غير أن هذه الظاهرة بدأت تُطل في قطاع غزة، وبصورة أقل بكثير في الضفة الغربية المحتلة، في السنوات الخمس الأخيرة. وأسباب ذلك متعدّدة، منها الانقسام بين غزة ورام الله، وما أثاره من إحباط في صفوف الجمهور العريض، ومنها جموح المشروع الصهيوني وجنوحه باضطراد نحو معسكر اليمين الأشد تطرفاً، وما يتصل بذلك من استمرار الحصار البحري والجوي على قطاع غزة. ومن الأسباب أيضاً، الإغلاق شبه الدائم لمعبر رفح الذي يقطع صلة أبناء غزة بالعالم الخارجي، ويفاقم من إحباطهم. علاوة على المصاعب الاقتصادية، وإخفاق مشاريع إعادة إعمار القطاع بعد الحرب الإسرائيلية المدمرة في أواخر العام 2007 وبداية العام 2008. تضاف إلى ذلك كله النزعة الإيرانية الصريحة والجامحة للتمدّد في المجتمعات العربية والإسلامية، واستثمار بؤر الفقر والعوز، من أجل نشر تشيع سياسي، وهي سياسةٌ جرى اتباعها في السودان وموريتانيا، ودول إفريقية أخرى. وبالنظر إلى مشكلات القطاع المتراكبة والمتراكمة، لا شك أن قطاع غزة يبدو، في أنظار أصحاب مشروع توسيع النفوذ الإيراني، بيئةً مثاليةً من أجل استثمار الإحباط والفقر من أجل استمالة الناس والسياسيين، وربطهم ربطاً مباشراً بمركز قرار خارج غزة وخارج فلسطين، وبما يخدم أهداف هذا المركز حصراً.
التحاق حركة الجهاد الإسلامي بطهران، ومنح سياسات الأخيرة تأييداً تاماً، يشكل رافداً قوياً
لحركة التشيع السياسي في القطاع، وتحدّياً سافراً لحركة حماس، كما لعموم الحركة الوطنية التي تسعى إلى كيانيةٍ وطنيةٍ تتصادق مع دول في العالم، من دون أن تكون تابعة لها، أو تحمل أجندتها. وتختلط في المسألة، هنا، المحاذير السياسية بالاجتماعية، إذ أن استمالة الناس بالهبات والمساعدات ومختلف أنواع الخدمات تحت العنوان الإيراني، سوف يشكّل محاولةً مكشوفةً لإعادة هندسة الخريطة الاجتماعية، وزرع حالةٍ طائفية تستقوي بالخارج، الأمر الذي يهدّد أمن المجتمع مباشرة، كما يهدّد بحرف المشروع الوطني عن مساره، فبدلاً من الاجتهاد في مصارعة العدو الصهيوني من أجل انتزاع الحقوق الأساسية، فإن الأولويات سوف تشهد اختلالاً، بحيث يتنافس هدف تمكين الجمهورية الإسلامية وبسط نفوذها على أي هدفٍ أو مشروع وطني آخر، وكما يحدث في لبنان على سبيل المثال. وكان يحسن بحركة الجهاد أن تقرأ الواقع العربي بموضوعية وأمانة، وترى إلى ماذا آل إليه الوضع في اليمن، بعد مد النفوذ الإيراني عبر الذراع الحوثي، وكيف اختل الوضع في العراق، وبات التغليب الطائفي والالتحاق بطهران السياسة الوحيدة الطاغية، ما أدى إلى انتعاش موجة التطرف والإرهاب وتمزيق النسيج الاجتماعي الوطني.
غني عن القول إن ظروفاً طبيعية لا تشهد احتلالاً أو تدخلاتٍ خارجية، كانت ستجعل من احترام المعتقد وحرية اعتناق المذهب أمراً عادياً مألوفاً، بل ومطلوباً. أما حين يكون نشر المذهب مرتبطاً بأجندةٍ خارجيةٍ وبتمويل أجنبي، وبمحور سياسي بعينه، فإن المسألة، والحالة هذه، تخرج عن حرية المعتقد إلى شراء الولاءات وتأليف قلوب الفقراء بالمال المذهبي والسياسي، وهو ما يحمل مخاطر ما أغنى قطاع غزة وأهله عنها، وهم ينوؤون بأعباء ثقالٍ تضاهي الرواسي الثقال. ولا شكّ أن شق صفوف أهل القطاع، وضرب مبدأ المواطنة والإخاء الوطني والديني والاجتماعي، وإحلال التصنيفات الطائفية، هي في مجملها وصفة نموذجية لتمزيق المجتمع، وإضعاف منعته في مواجهة العدو المتربص، وانشغالٍ بمستجداتٍ مفتعلةٍ ودخيلةٍ لتضييع البوصلة الوطنية، وبذر بذور الشك والارتياب والتربص.
من واجب المجتمع المدني العريض، كما الحركة الوطنية بمختلف تشكيلاتها، بما في ذلك المخلصين في صفوف الجهاد الإسلامي، اليقظة أمام هذه المشاريع، وإزاء قيام "جمعيات خيرية" بنشاطاتٍ سياسيةٍ محدّدة تخرق القانون خرقاً فاضحاً، وتهدّد النسيج الاجتماعي وتعبث بالأولويات الوطنية، علماً أن النشاط السياسي حق للأحزاب والفصائل، على أن يجسّد الخيارات السياسية المستقلة التي تهدف إلى التمكين الوطني، ودحر الاحتلال، لا تمكين دولة أجنبية تتغذّى على النزاعات الأهلية في مجتمعاتٍ ودولٍ أخرى.