جدل بريطانيا والاتحاد الأوروبي

24 يونيو 2016

كاميرون وزوجته بعد تصويتهما في لندن (23 يونيو/2016/Getty)

+ الخط -
صوّت البريطانيون، في عام 1975، في استفتاءٍ عام بأغلبية الثلثين لمصلحة البقاء فيما كانت تسمى الجماعة الأوروبية (EC) آنذاك. وتصوّت بريطانيا نفسها اليوم بشأن البقاء في عضوية الاتحاد الأوروبي أو الخروج منها، الأمر الذي يشكل تحدّيًا قاسياً أمام فكرة التكامل والاندماج الأوروبي الذي تسارعت وتيرته بعد الحرب الباردة، من خلال سلسلةٍ من الاتفاقات التي دعمت التكامل الأوروبي من اتفاقية ماستريخت المؤسسة للاتحاد بصيغته الحالية، مروراً بأمستردام ونيس، وآخرها اتفاقية لشبونة، في محاولةٍ من قادة دوله تشكيل كتلةٍ موحدةٍ أوروبيةٍ قادرةٍ على إحداث نوعٍ من التوازن في النظام الدولي، بالتوازي مع التحولات المتسارعة، كصعود قوى على المسرح الدولي (الهند، الصين، روسيا)، وتراجع الالتزامات الأمنية للولايات المتحدة الأميركية، الحليف الاستراتيجي لأوروبا، في مناطق جيوسياسية عديدة. وقد نجمت عن تلك التحولات تهديداتٌ أمنيةٌ وأزماتٌ اقتصاديةٌ، لا يمكن حلها، أو التخفيف من آثارها في القارة العجوز، إلا من بوابة التكامل والاندماج فيما بين دولها. ولا شك أن نتيجة الاستفتاء، اياً كانت، ستؤثر على عملية التكامل والاندماج الأوروبي وسياساته ومؤسساته. وفي المقابل، ستقود إلى إعادة صياغة علاقة جديدة مع بريطانيا، عضواً أم دولةً غير عضو في الاتحاد الأوروبي.
يقوم تاريخ العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي على تناقض المصالح والرؤى، فهناك تاريخ طويل من الاحتراب والعداء وعدم الانسجام في المصالح والتوجهات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وبشكل أدق بين الدول الفاعلة في المنظومة الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، وبدرجةٍ أقل إيطاليا)، حيث لم تكن بريطانيا يوماً قوة دفع ودعم لعملية التكامل والاندماج الأوروبي، وهو ما أكسبها لقب الشريك المعطل لعجلة التكامل.
كما تعتبر بريطانيا نفسها أطلنطية أكثر منها أوروبية، فضلاً عن شعورها بأن انضمامها للاتحاد الأوروبي قادها إلى التنازل عن دورها الدولي الكبير، انخراطها في أزماتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ، في وقت حقق لها الانفصال، والابتعاد عن أوروبا، حداً أدنى من الأمن القومي والاستقرار الاقتصادي الداخلي. وعليه، فإن علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي انتقائية، وتتعامل معه كوسيلة لتحقيق غايةٍ، ولم تكن غايتها بالمطلق إيجاد اتحاد أوروبي قوي ومتماسك، بقدر ما كانت تحسين قوة بريطانيا واقتصادها في العالم، حيث دخلت الحكومات البريطانية المتعاقبة في نشاطٍ محموم في عملية الاندماج الأوروبي، بهدف تأمين مصالح بريطانيا الاقتصادية والسياسية. وقد أحدثت هذه الثنائية مشكلاتٍ عديدةً للحكومات البريطانية، وتسببت في إحباط باقي دول الاتحاد في عدم رغبة بريطانيا في تحقيق اندماجٍ كامل ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي.
ويمكن وضع مجموعة سيناريوهات متوقعة لعلاقة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، بعد الاستفتاء
على النحو التالي: في حال قرّر الشعب البريطاني التصويت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، فإن السيناريو الأكثر منطقيةً وعملية قريب من ترتيبات 1975، أي التوافق على إحداث تغيير في سياسة الاتحاد الاوروبي، تتوافق مع التفضيلات البريطانية، خصوصاً فيما يتعلق بقواعد الرفاهية الاجتماعية الخاصة بالعمال الأجانب، وتعزيز التنافسية في الاتحاد الأوروبي، وتسهيل حركة رؤوس الأموال، وتخفيف القوانين الأوروبية الناظمة للشركات الصغيرة والمتوسطة، وإعطاء البرلمانات الوطنية الحق في التجمع معاً، بهدف رفض أي تشريعٍ يصدر على المستوى الأوروبي يتعارض مع مصالح الدول القومية. وبالتالي، سيشكل ذلك نصراً تاريخياً لرئيس الحكومة البريطانية، ديفيد كاميرون، الذي سيذكّر فيه أن الوقت قد حان لالتزام الاتحاد الأوروبي بالإصلاحات التي تطالب فيها لندن، والتي تم الاتفاق عليها مع المجلس الأوروبي الذي يرأسه دونالد توسك في فبراير/ شباط الماضي.
وفي حالة التصويت على الخروج من الاتحاد، تظل احتمالات التوصل، من خلال مفاوضات جديدة، إلى روابط بين بريطانيا دولة غير عضو والاتحاد الأوروبي قائمة، وترتبط بهذا الاحتمال ثلاثة سيناريوهات: يتمثل الأول في ما يعرف بالنموذج النرويجي، بمعنى أن تغادر بريطانيا نادي الاتحاد الأوروبي، وتحاول الحفاظ على مكانٍ لها في المنطقة الاقتصادية الأوروبية. وهو ما يمنحها حق الانضمام إلى السوق الأوروبية الموحدة، مع إمكانية الدخول في بعض الخدمات المالية. ولكن، مع تحريرها من قواعد الاتحاد الأوروبي الخاصة بالسياسات الزراعية (PAC)، الأسماك، ومسائل العدالة والشؤون الداخلية.
يتمثل السيناريو الثاني بالنموذج السويسري، أي أن تقلد بريطانيا سويسرا، فهذه ليست دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي، لكنها تتفاوض معه على اتفاقياتٍ تجاريةٍ على أسس قطاعٍ بقطاع. بمعنى دخول مباشر إلى السوق الأوروبية الموحدة، من خلال اتفاقيات ثنائية متعدّدة، ويعني خروج بريطانيا وفقاً لهذا النموذج أنها سوف تعيد التفاوض على اتفاقياتٍ ثنائيةٍ متعدّدة مع الاتحاد الأوروبي، على غرار سويسرا التي فاوضت مع الاتحاد تسع سنوات على 120 اتفاقية، بهدف ضمان الدخول إلى سوق الاتحاد الأوروبي، وتشارك، بشكلٍ كامل، في السوق الموحدة، في مقابل تطبيق داخلي لقواعد الاتحاد الأوروبي.
السيناريو الثالث والأخير يعرف بالنموذج التركي، حيث تبرم بريطانيا اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، بحيث يتم إعفاء بريطانيا من حرية حركة المواطنين. ولكن، في المقابل سيفقد البريطانيون حقهم في الحركة داخل الاتحاد الأوروبي، وتصبح الترتيبات حول البريطانيين في دول الاتحاد الأوروبي.
لا شك أن استفتاء بريطانيا ستكون له تبعات سياسية واقتصادية على الاتحاد الأوروبي، وعلى بريطانيا في الوقت نفسه. وهذا يطرح تساؤلاً حول مستقبل الاتحاد، وهل ستنتقل عدوى الاستفتاءات إلى دول أوروبية أخرى، الأمر الذي يضع قادة الاتحاد في بروكسل أمام تحدّي الاستمرار في الوحدة والتكامل الأوروبي بشكل أعمق، بحيث لا يعطل خروج بريطانيا واعتراضاتها مسيرة التكامل الأوروبي والعمل على إصلاحاتٍ داخليةٍ، وإعادة النظر في الاتفاقات الناظمة لعمله، والبحث عن حلولٍ أكثر عقلانيةً لمشكلاته الداخلية السياسية والاقتصادية والأمنية.
05C60754-3195-4BA1-8C61-5E78E41A4B63
أحمد قاسم حسين

كاتب وباحث فلسطيني في مركز الأبحاث ودراسة السياسات، مقيم في الدوحة