ليبيا والحاجة لإعادة بناء المؤسسة العسكرية
تعدّ المؤسسة العسكرية قوة سيادية ضامنة لأمن الدولة واستقرارها. ولكن الجيش، في الحالة الليبية، عانى قبل اندلاع ثورة 17 فبراير (2011)، من ضعف الجاهزية والإمكانات. لم يبنِ معمر القذافي جيشا قويّا بقدرات وعقيدة قتاليّة واضحة. انصبّ تركيزه على إنشاء كتائب أمنية متفوّقة من الناحية العسكرية على الجيش النظامي في التسليح والتجهيز والتدريب، لحماية نظامه وإحكام سيطرته على المدن الليبية. وتدربت وحدات الجيش على شنّ حروب في الصحراء لمواجهة التمرّد والحركات الانفصالية، والدخول في حروب عبثية لا طائل منها. وقد زج القذافي ورقة الجيش في مواجهة الحركة الاحتجاجية في ليبيا لقمعها وإطفاء شعلتها. ويزخر أرشيف الثورة الليبية بالسرديات عن الأرتال العسكرية التي توجهت إلى مدينة بنغازي ومدن أخرى لهذا الغرض، وقد فشل مسعى القذافي ذاك نتيجة التدخل الخارجي الذي كان حاسمًا في تدمير قوته العسكرية.
ما إن انسحبت الدول المتدخلة عسكريًا من ليبيا، بعد سقوط نظام القذافي، حتى غرقت البلاد في فوضى السلاح وانتشار الكتائب والمليشيات التي لا تنتظم تحت قيادة عسكرية موحدة في البلاد، لا بل راحت تلك الدول (فرنسا، إيطاليا، الإمارات، مصر، تركيا، السودان) تدعم بعض القوى العسكرية وتساندها، لتزيد هذه الدول نفوذها وتضمن مصالحها في ليبيا، ما قاد إلى فشل العملية الانتقالية برمتها في ليبيا، فانهار مسار الانتقال الديمقراطي، ودخلت البلاد أزمةً سياسيةً معقدة، كان أحد تداعياتها انهيارا كاملا للمؤسسة العسكرية الليبية المتداعية أصلًا. وقد انقسمت بقايا المؤسسة العسكرية بين كتلتين، واحدة في الشرق مع انطلاق عملية الكرامة في مايو/ أيار 2014 والتي تتحالف معها قوى وكتائب قبلية، وأخرى في الغرب بنت تحالفاتها مع كتائب سياسية وعسكرية، تدّعي أنها تمثل ثورة 17 فبراير، التي يحاول اللواء المتقاعد المتمرد، خليفة حفتر، الانقلاب على منجزها في التحرّر من إرث نظام القذافي.
الحاجة ملحّة في الغرب لبناء مؤسسة عسكرية متماسكة، قادرة على فرض الأمن وحماية مؤسسات الدولة الليبية ووحدة ترابها
أخفقت جميع الحكومات الليبية المتعاقبة منذ المرحلة الانتقالية في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 في ضبط السلاح ودمج الكتائب في مؤسسة عسكرية لها قيادة موحدة، وآخرها حكومة الوفاق الوطني التي انبثقت عن الاتفاق السياسي الليبي (الصخيرات) الموقع في ديسمبر/ كانون الأول 2015، إذ أصبح من الصعب إعادة بناء الجيش الليبي بعد انتشار الكتائب المسلحة وسيطرتها على سلاح الجيش الليبي، الخفيف والمتوسط والثقيل، وبات بعض كتائب الثوار أشبه بجيش نظامي بقدرات تسليحية كبيرة. كما أن المراقب العادي قد يختلط عليه الأمر بين جيشٍ يسمي نفسه "الجيش الوطني الليبي" تحت قيادة حفتر، والجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق الوطني، ولكل منهما ناطق رسمي وتشكيلات عسكرية كلاسيكية، تساندها كتائب عسكرية غير نظامية. وفي هذا الصدد، عقدت القاهرة اجتماعات لقادة عسكريين ليبيين موالين لحفتر وحكومة الوفاق الوطني منذ منتصف عام 2017، واختتمت الجولة السادسة في 23 مارس/ آذار 2018. ولكن ما ميّز البيان الختامي لها أنّه جاء عامًا لا يشتمل على إجراءات عملية لتوحيد المؤسسة العسكرية؛ إذ جاء فيه تأكيد الثوابت الوطنية، وفي مقدمتها الحفاظ على وحدة ليبيا وسيادتها، ومدنية الدولة، وضرورة الابتعاد بالمؤسسة العسكرية عن الاستقطابات، سواء السياسية والجهوية التي من شأنها التأثير سلبيًا في الأداء الاحترافي والدور الوطني للجيش الليبي. وقد أخفق هذا المسار الذي تبنته القاهرة، ما دلّ، في حينه، على حدّة التناقض بين القوى الإقليمية والدولية بشأن كيفية توحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا وآلياته، إضافة إلى أن مصر وسيط غير محايد ومنحاز لحفتر.
جاء التحول اللافت في المشهد العسكري في ليبيا منتصف يناير/ كانون الثاني 2019، عندما بدأ حفتر الذي يرأس ما يسمى الجيش الوطني الليبي عملياته العسكرية في الجنوب الليبي. واتجه في إبريل/ نيسان من العام نفسه في مغامرة محفوفة بالمخاطر، محاصرًا العاصمة طرابلس. وكان الناطق الرسمي باسم جيشه، أحمد المسماري، يتحدث عن سير العمليات العسكرية التي تستهدف "المليشيات الإرهابية" على حد وصفه. وفي المقابل، كان الناطق الرسمي باسم الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق الوطني، محمد قنونو، يعطي وصفًا لمجريات المعارك وقدرة الجيش والقوات التابعة لحكومة الوفاق في التصدّي لهجوم حفتر "الغاشم" على العاصمة التي توجد فيها الحكومة الشرعية. يقاتل كل من الطرفين بجيش شبه نظامي "هجين"، بمعنى وجود كتائب ومليشيات تقاتل مع كل طرف. ولكن ما يميز قوات الوفاق والكتائب المساندة للجيش الليبي التابع لها أنها تدافع عن وجودها وفي مناطقها، في حين اعتمد حفتر في حربه ضد العاصمة طرابلس على عناصر قبلية من الشرق الليبي، إضافة إلى مليشيات سودانية وتشادية، وأخيرًا استعان بمجموعة فاغنر الروسية، نتيجة عجزه عن تحقيق تقدم عسكري في محيط العاصمة. وقد انهارت بقايا قواته شبه النظامية بمجرّد انسحاب تلك المجموعات الرديفة غير النظامية التي تقاتل معه، ما يعني أن الجيش الوطني الليبي الذي يقوده حفتر استنزف بشكل كامل، وفقد الخزان البشري الذي كان يمدّه بالمقاتلين، خصوصا بعد أن بسطت قوات الوفاق سيطرتها على ست مدن غرب العاصمة طرابلس، كانت موالية لحفتر وتمدّه بالمقاتلين. كما شكل سقوط قاعدة الوطية الجوية بيد قوات حكومة الوفاق بمثابة إعلان هزيمة حفتر واندحار قواته على أبواب طرابلس. وفي المقابل، لا يخفى على أحد أن القوة الرئيسة لحكومة الوفاق، وقدرتها على دحر حفتر، ترتبط بشكل أساسي في الكتائب التي تقاتل إلى جانبها، وقد وجهت أصابع الاتهام إليها بتجنيد المرتزقة القادمين من سورية ومن دول أخرى، إضافة إلى التدخل العسكري التركي الذي كان عاملًا حاسمًا في تغيير ميزان القوة لصالحها.
قوات الوفاق والكتائب المساندة لجيشها تدافع عن وجودها وفي مناطقها، في حين اعتمد حفتر على عناصر قبلية من الشرق
وعليه، نحن أمام قوتين عسكريتين تقاتلان بأجندات وشعارات مختلفة (محاربة الإرهاب، محاربة الاستبداد، الدولة المدنية، وحدة ليبيا..)، وهو ما قد يمهد، في ظل تحوّلات المشهد السياسي والعسكري الليبي أخيرا، لحدوث شرخ في الجغرافيا الليبية، يؤسّس بمقتضاه حفتر ومن يدعمه من الفيدراليين واقعا جديدا في المنطقة الشرقية (إقليم برقة)، خصوصا أنه أعلن في بيان متلفز بثته قنوات مقرّبة منه، في 27 إبريل/ نيسان 2020، بعد سلسلة الهزائم التي لحقت بقواته، إيقاف العمل باتفاق الصخيرات الذي لم يلتزم أصلا بتنفيذه، و"الاستجابة للإرادة الشعبية" بتولّي "المؤسسة العسكرية" السلطة، وذلك أياما قليلة بعد طلبه "تفويضًا شعبيًّا" لإدارة شؤون البلاد، وفق إعلان دستوري تصدره المؤسسة العسكرية، ما قد يكون مؤشرًا دالًا على حالة الإحباط التي وصلت إليها القوى الداعمة له (مصر، الإمارات، السعودية)، والتي رأت في تقسيم البلاد، وتفعيل التفويض المزعوم داخل إقليم برقة الخيار الأفضل لضمان نفوذها ومصالحها. في المقابل، بعد استعادتها المناطق التي سيطر عليها حفتر، تكون قوات حكومة الوفاق الوطني قد ثبتت الحدود الجغرافية، وهو، على المدى الطويل، أمرٌ يهدّد وحدة الأراضي الليبية، ويجعلها عرضةً لمزيد من التدخلات الخارجية التي تصبّ زيتا على نار الاقتتال الداخلي الليبي، ما لم يكن هناك تغيير في مسار الأزمة الليبية يقطع الطريق على حفتر للقيام بمثل هذه الخطوة في الشرق الليبي.
واليوم، باتت الحاجة ملحّةً في الغرب الليبي لبناء مؤسسة عسكرية متماسكة، قادرة على فرض الأمن والاستقرار وحماية مؤسسات الدولة الليبية ووحدة ترابها، على نحوٍ يقود، في نهاية المطاف، إلى تأسيس دولة مدنية تطوي معها حقبة الحرب الأهلية، حيث تحتاج حكومة الوفاق في ليبيا الشروع في حوار مع كل القوى والكتائب التي قاتلت معها على نحوٍ يفضي إلى أن تصبح قواتٍ نظاميةً تحت قيادة موحدة، وهذا أمرٌ غاية في الصعوبة، في ظل تعقيدات الملف الليبي، إذ يتطلب توفر الإرادة لدى تلك الكتائب المسلحة، وأن تحيد مصالحها الحزبية/الأيديولوجية جانبًا لصالح بناء جيش وطني. ويتطلب أيضًا دعم الدول المجاورة لليبيا، وتحديدا الجزائر وتونس اللتين يتسم موقفهما بالحياد والوقوف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء في ليبيا، وأن تستضيف إحداهما حوارًا ليبيًا يتصدر أجندته بحث بناء المؤسسة العسكرية الليبية، وإلا سنكون أمام حرب أهليةٍ تستمر عقودا تستنزف البلاد التي باتت أشبه بغابة سلاح.