عمر باطويل... ضحية التطرّف الديني

02 مايو 2016

عمر باطويل.. لم يتصالح مع ثقافة القطيع

+ الخط -
تشكل بيئة الحرب معملاً لإنتاج أشكال التطرف، وفي مقدمتها التطرف الديني الذي يعد نتيجة مباشرة للحرب، وأكثرها فداحة واستمرارية. يتعرّض المجتمع في ظل الحرب إلى هزة عميقة تطاول أسسه الوجدانية وهويته الجمعية، وتؤدي، في النهاية، إلى زعزعة تصوراته الأخلاقية عن العالم المحيط والقيم الحاكمة له. في هذه الحالة، يصبح المجتمع مكشوفاً وأعزل في مواجهة قوى متطرفة دينية، تفرض عليه همينة سياسية وعقائدية، كونه لا يزال هشاً وعاجزاً عن استيعاب تجربة الحرب، ومن ثم توليد آلية للحماية من هذه الهزات. لذا، يلجأ المجتمع إلى قمع مخاوفه وتساؤلاته وتعزيز "التقليدي" داخله.
جرّاء محاولة فهم العالم الذي تمخضت عنه الحرب، واستيعاب الهزيمة النفسية التي ولدتها فظاعاتها والمتغيرات الحياتية التي صاحبتها، تأتي استجابة المجتمع للدين والتطرف تعبيراً عن النكوص الحاصل ومحاولة الانسجام مجدداً مع الواقع بالصيغة الرجعية التي يفرضها المتطرفون. من تضافر الشروط الحدية لوضع الحرب، وشروط ذاتية أخرى، يتغذّى وجود التطرف الديني داخل المجتمع المعنف، فينمو في شكله الأولي ردة فعل على العنف السياسي والاجتماعي وتدهور الأوضاع الاقتصادية، لكنه ما يلبث أن يعيد إنتاج ذلك كله في عمق بنية النظام الجديد، عقب نكسة وطنية كالحرب.
على مدى العقود السابقة، غذّى نظام صالح التشدد الديني في اليمن، ووظفه لإخضاع المجتمع والسيطرة عليه، من خلال استخدامه تقويض الأحزاب الداعية إلى فصل السلطة والدولة عن الدين، ودعم نظام صالح في المقابل الأحزاب والحركات الدينية المتشددة. في ظل الصراعات السياسية التي انتجها النظام في اليمن، نجحت القوى الدينية في سلفنة شرائح واسعة من المجتمع، ولم يكن انقلاب جماعة الحوثي والجيش الموالي لصالح، إلا تحويلا لمسار العنف السياسي الموجه، من عنف موجه ضد الدولة اليمنية والقوى السياسية إلى عنف شامل موجه ضد بنية المجتمع وهويته، وأدى ذلك إلى تحوّل جذري في طبيعة الصراع السياسي وتغليفه بصبغة طائفية، عزّزتها استثارة العواطف الدينية وتحشيدها أفراد المجتمع، وتوظيف هذه العواطف في سياقات الصراع.
مع اتساع رقعة الحرب في اليمن، وتدخل القوات العسكرية للتحالف العربي بقيادة السعودية، تعمق انقسام المجتمع اليمني، وتشظت هويته الجمعية، ولجأ جمهور واسع من اليمنيين إلى الدين، ليس فقط لتفسير معنى الحرب ومبرراتها وتحيزات أطرافها، بل وملاذاً أخيراً لقبول أقدارهم المحتومة في واقع الحرب، وضمان الجنة مكافأة في قتالهم في صف أحد أطراف الصراع.

أسهمت الحرب اليمنية - اليمنية -الإقليمية، بتعقيداتها وصبغتها شبه الطائفية، في إيجاد بيئة للتشدد الديني، سواء في توسع التنظيمات الجهادية المسلحة، كتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش)، وبالتوازي معهما توسع المجاميع السلفية في المجتمع اليمني، أو في تنامي وعي ديني متشدد، نتيجة تكريس أطراف الصراع الحرب باعتبارها حرباً مقدسة بين الحق والباطل، وليست صراعاً على السلطة وحسب. كرّست الحرب في المجمل تشدداً دينياً غير مسبوق داخل المجتمع اليمني، وأسهمت في تصاعد حدّة التطرف الديني، ليصبح ظاهرة ملموسة في مناطق يمنية عديدة، بما فيها جغرافية مدنية كانت تتمتع بتاريخ عريق من الانفتاح النسبي والتسامح الديني.
من الأبعاد الخطيرة للحرب في اليمن إنضاجها نمطاً واضحاً لتفاعلات اجتماعية منتجة للتطرف الديني، وتطورها إلى تشكيلات اجتماعية متماسكة، تأخذ، في بعض الحالات، منحى سلطة دينية قامعة موازية لسلطة الدولة المقوضة، إذ لا تحتاج لتثبيت سلطتها الرادعة إلى فتوى دينية تكفر وفق منظورها الاختزالي للدين أفراداً تسمهم بالخارجين عنه، بل صارت تنفذ مباشرة عقوباتها في حقهم، ثم تبرر ذلك لاحقاً بـِ"حماية الدين". لم يعد تنظيم القاعدة أو داعش الجهة الوحيدة المسؤولة عن سلسلة طويلة من الاغتيالات السياسية والدينية التي شهدتها اليمن، أخيراً، بل أضيفت إليهما مروحةٌ واسعة من تشكيلات اجتماعية دينية ومليشيات دينية مسلحة، أنتجتها الحرب، ما أتاح للجماعات الجهادية المسلحة، وكذلك جماعات الإسلام السياسي، بشقيها السني والشيعي، استثمار هذه التشكيلات المجتمعية كأداة لتنفيذ مهامها القذرة، إذ توفر لها الدعم والحماية في مقابل استخدامها في توسيع نطاق سلطتها السياسية.
في حين تجري حرب ضروس بين أطراف الصراع اليمنية لحسم المعركة، توسع القوى الدينية مجال حاضتنها الاجتماعية مديرة معاركها بصمت وإتقان شديد، ووفق متتالية إجراءات مدروسة لتعزيز سلطتها، وضمن تلك الإجراءات تدشينها حرباً ضد "الليبراليين واليساريين والمثقفين اليمنيين"، باعتبارهم النقيض لأطروحاتها وأيديولوجياتها المتطرفة والعقبة المستقبلية أمام تثبيت سلطتها. لذا، بدأت حربها ضد المختلفين معها بإطلاق تهديداتٍ وحملات تكفير، فيما تعمل على لفت الأنظار لنهجها. لكن، منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، اخذت حرب المتطرفين منحىً أكثر عنفاً ودموية، ففي الرابع من سبتمبر، اغتال متشددون دينيون في مدينة تعز، المفكر أنور الوزير، أمام بيته في منطقة الأخوة؛ بسب اشتداد المواجهات المسلحة بين المقاومة ومليشيات الحوثي وصالح في المدينة، لم تثر هذه الجريمة حينها ردة فعل في أوساط اليمنيين، واستثمرت بعض أطراف الصراع قضية أنور الوزير سياسياً، باعتبار أن قتله وقع في منطقةٍ تابعةٍ للمقاومة في تعز؛ وفي حادثةٍ أخرى، لا تقل بشاعة ودموية عن سابقتها، تعرّض الشاب عمر باطويل للاغتيال في الرابع والعشرين من إبريل/ نيسان الماضي، على خلفية كتاباته النقدية في "فيسبوك" لرجال الدين وتوظيفهم الدين لخدمة أهدافهم الخاصة.
لا يختلف اغتيال أنور الوزير عن اغتيال عمر باطويل سوى في توقيت الجريمتين، وهو ما جعل أصداء قضية اغتيال الشاب باطويل تتجاوز حدود اليمن، لتصل إلى المنطقة العربية والعالم، فقتل شاب لم يتجاوز الثمانية عشر عاماً، بسبب تساؤلاته الوجودية عن الدين والإله، توضح مستوى السلطة والقدرة اللذين صار يتمتع بهما التطرف الديني في اليمن، ويكشف كم بات يحكم الوسط السياسي والاجتماعي ويدير علاقاته.
هزّت جريمة اغتيال باطويل النخب المثقفة اليمنية، واعتبرتها جريمة موجهة ضدها. لكن، في واقع سلطة التطرف، لم يتعاط يمنيون كثيرون مع الجريمة بحس إنساني وأخلاقي، كان يحتم عليهم إدانتها، بل وفق منظور ديني متشدّد، يعتقد امتلاكه وحده الحقيقة المطلقة لتفسير الدين؛ والمفزع هو اتفاق القوى الدينية المتشددة، على اختلاف أيديولوجياتها، على مشروعية إهدار دم باطويل، كل وفق رؤيته الدينية الضيقة، مبرّرين اغتياله بالإلحاد والعلمانية، في حين حاولت بعض قوى الإسلام السياسي المتظاهر بالانفتاح تجاهل قضية باطويل ولملمة تداعياتها الاجتماعية، خوفاً من وصولها إليها.
إن اغتيال شاب في مقتبل العمر، لأنه "يرى الله في الزهور لا في القبور"، كما كتب، ومباركة القوى الدينية وقطيع واسع من المجتمع اليمني لاغتياله، يؤكد انتصار الفكر المتطرف للجماعات الدينية، وشتات القوى المدنية والمستنيرة في اليمن، وتعطينا مدلولاته صورة واضحة عن هوية بلدٍ يعاد تخليقه في رحم الحرب، وإلى أي حد صار المجتمع انعكاساً لتشوهات الحرب السياسية والاجتماعية والدينية. صارت اليمن في ظل الحرب "بلاداً مظلمة"، لم تعد تقبل أبناءها المتجردين من عصبوية الدين والجغرافية والسياسية.
قُتل باطويل، وصفق كهنة الدين وأتباعهم لدمه المهدور، لكن شاباً مثله لا يموت، اذ ستظل حياته القصيرة على هذه البلاد الخربة ضوءاً يسترشد به أصدقاؤه ومحبوه، وستبقى كتاباته المتفرقة إشارات مكثفة إلى فكر شاب فارق واستثنائي لا يتكرّر، شاب سبق زمنه وواقعه بعقود طويلة، شاب حلم بدينٍ لا يوظف لصالح السياسة، وبمجتمع متعافٍ يشجع على الفردية والفكر المستقل، شاب لم يتصالح مع "ثقافة القطيع". لذا قتلته قطعان الدين، وباركتها قطعان السياسة.

دلالات