تمتع بالديمقراطية في سورية

21 ابريل 2016
+ الخط -
فعلها النظام السوري مجدداً، وحصد غالبية (قل جميع) مقاعد مجلس الشعب، وهو الاسم المعتمد لمجلس النواب السوري الذي يروق لبعض الوجوه الإعلامية الواسعي الثقافة أن يسموه أيضاً "البرلُما"، مع خنّةٍ تدل على وجود نون مهملة في آخر الكلمة.
كل شيء جرى كالعادة المكرسة منذ عشرات السنين. كل المظاهر، من إعلان برامج (البرنامج الانتخابي لأحدهم يتلخص في "إعادة العبق لمدينة الياسمين")، وصور (صورة المرشح الممثل المبدع المقاتل، وصورة المرشحة وبيدها "المايك" وهي تغني وترقص بالبدلة العسكرية)، وأحاديث تلفزيونية (عن الديمقراطية وسط تكالب العالم واندياح الخيانات)، وشعارات و"عرس وطني" وعدد هائل من المرشحين (في اللاذقية وحدها بلغ عدد طلبات الترشيح 1653، للتنافس على 17 مقعداً محدّدين سلفاً) وانسحابات موزونة (مع بعض الزعل أو كثير منه، لأن النظام اختار فلانا في القائمة، ولم يختر علاناً مع أنه لا يقل ولاءً وتصفيقاً ودبكاً)، ومعرفة مسبقة بالنتائج (النظام هو الذي يختار نوابه من الشعب وإلى الشعب وعلى الشعب)، ومباركة بالفوز قبل الانتخابات (فمن ورد اسمه في قائمة المبشّرين بالمجلس هو بمثابة الفائزـ لا يقل عن ذلك مثقال صوت واحد) ..إلخ، كل هذه مظاهر مألوفة تماماً للسوريين، وهي بالنسبة لهم "ديجا فو"، بلغة النفسانيين.
كل شيء على سابق عهده، "فلا ملك جاء، ولا وحي نزل". مع ذلك، هناك ما هو جديد، ولا يمكن إنكاره. مثلاً، حلت قائمة الوحدة الوطنية بدلاً من قائمة الجبهة الوطنية التقدمية السيئة، أقصد الذائعة الصيت. ومن حسن الحظ ومحاسن المصادفات أنها جاءت على مقاسها تماماً، من دون زيادة أو نقصان، أي "حفر وتنزيل". نعطيك مثلاً آخر على ما هو جديد، هناك محافظات لم تجر فيها "العملية الانتخابية"، نكرّر "العملية الانتخابية" (هكذا وبكل فخامة)، ذلك أن هذه المحافظات تقع تحت سيطرة جماعات إسلامية تكفيرية وإرهابية وطائفية وقروسطية ورجعية طبعاً، لكن الأهم أنها جماعات "ضد الديمقراطية" التي يسعى النظام إلى تكريسها بكل ما أوتي من قوة ورباط الخيل. ويجب ألا يبحث المرء أو المرأة عن جوابٍ لأسئلةٍ، مثل لماذا يصر النظام على قمع أعداء هذه الجماعات المعادية للديمقراطية، والتي تحد جغرافياً (جغرافياً فقط) من هذا "العرس الديمقراطي". ذلك أن هذا النوع من الأسئلة ليس سوى تعبيرٍ عن أن سائله لا ينتمي إلى الجماعة (بالإذن من جماعة الإخوان المسلمين، نقصد هنا جماعة النظام، فلكلٍ جماعته التي تجتمع على عداء الجماعة الأخرى، لا لشيء إلا لأن هذه تجتمع على عداء تلك، وقس على هذا، وكل في فلك يسبحون).
ومن الأمثلة على ما هو جديد أيضاً، أن صفحاتٍ كثيرة موالية تحدثت باستخفاف إلى حدود
السخرية من هذه "العملية الانتخابية"، وهؤلاء أناس يعيشون تحت قبضة أصحاب "العملية الانتخابية"، ويمكن معالجتهم، ببساطة، بإحدى الوسائل الديمقراطية العديدة المتوفرة بغزارة لدى "الجهات المختصة"، أسوةً بإخوتهم الذين هم من خارج الجماعة (جماعة النظام، للتوضيح). كتب كثيرون منهم أن أسماء الفائزين مقرّرة سلفاً. قال أحدهم إنه عاد من نوبة الحراسة، فأخبره زملاؤه أنه انتخب من دون أن يدري، أي انتخبوا عنه. هناك من كتب "بلا انتخابات بلا بطيخ، هاد مسخرة مو مجلس شعب". ولكن هذه التعليقات لا تثير حفيظة النظام، لأنها تصدر عن موالين مضمونين وجاهزين لأن يهتفوا في اللحظة التالية "كلنا فداء الأسد"، وهم مهما قالوا إنما يرتعون في دائرة "الدفاع عن الوطن"، ولا تخرجهم أقوالهم هذه من الجماعة، ولهم لذلك أن يقولوا، فهذه حرية تعبير، غير أن حرية التعبير هذه تصبح "أخطر من جبهة النصرة"، حين تصدر عن شخص من خارج "الجماعة"، حتى لو قال ما هو أدنى من ذلك بكثير. حتى النظرة المائلة من شخص محسوب من خارج الجماعة يمكن أن تعرّضه لمساءلة ديمقراطية، وربما أوصلته إلى "عملية اعتقالية"، لا يعرف نهايتها أحد.
ومن ناحية ثانية، هؤلاء الذين ينتقدون هذه "العملية الانتخابية" بكلام ساخر ومرير على الصفحات الموالية سوف يرونها مثالاً للديمقراطية، إذا ما انتقدها معارضٌ ما لا ينتمي إلى الجماعة، ولو بكلامٍ يحمل مضمون كلامهم نفسه. لا يقبلون أن يكون هناك أي قاسم مشترك مع من هم خارج الجماعة، العياذ بالله. حق النقد محصور بأهل الجماعة، لأنهم وحدهم من يحرصون على "الوطن". لسان حالهم يقول: نحن نرى العيوب، ونحن من ينتقدها، ربما نعترض وقد نشتم، وربما نعلم أن لا قيمة لكلامنا في النهاية. لا يهم، لكن دع جانباً كل شيء، نحن لا نقبل أن يأتي الكلام عن العيوب من خارج الجماعة، ذلك أنه حينها سيكون مغرضاً وتدميرياً، ويزعزع أركان الوطن. النقد من داخل الجماعة، مهما بلغ من النرفزة والشتم، إنما يدل على قلبٍ حريص على الوطن، أما النقد من خارج الجماعة، فإنه مهما بلغ من التهذيب والمعرفة، إنما هو تغطية لغاية منحطة ونياتٍ خبيثة و"هدّامة".
تتسع ديمقراطية الجماعة الخاصة بالنظام السوري، مثلاً، لمقال نقدي ساخر، ضد "العملية الانتخابية" في اللاذقية، على صفحات جريدة الأخبار، لأنها من الجماعة. مقال يسخر من "العرس الوطني"، ويتكلم عن إخراج الطلاب من قاعات المحاضرات ليدلوا بأصواتهم "طوعياً" (الكلمة موضوعة بين قوسين في الأصل)، وعن "معاينة الأصابع" للسماح للطلاب بالخروج، وجمع هويات الطلاب الموجودين على الباب، لترسل إلى الصندوق، ولتسجل الأسماء، وتوضع أوراق الانتخاب "غيابياً"، ثم تعاد الهويات، وينادى على أصحابها و"يطلق سراح كل "منتخب" بعد أن يأخذ "كتابه بيمينه"، بحسب تعبير الجريدة. ويكمل الصحافي تحقيقه بمقابلة عميد إحدى الكليات، زاعماً أنه طالب، ويريد الخروج من دون أن ينتخب، فيكرّر العميد المحاضرة عن "الواجب الوطني". ولكن، بلهجة حادّة، ويؤكد أن هذه تعليمات رئاسة الجامعة، "ومع كشفنا عن صفتنا الإعلامية، وإبراز الثبوتيات الرسمية صب علينا العميد اتهامات بـ"اللاوطنية، والتخريب".
يعلم هذا الصحافي أن هذه التهم مجرد "فشّة خلق"، لا تعقبها أي "عملية ديمقراطية" لاحقة بحقه، طالما أنه محسوبٌ على الجماعة. وما ينطبق على جماعةٍ ينطبق على الجماعات الأخرى في سورية. وعليه، النصيحة الذهبية للسوريين: ادخل في الجماعة، وتمتع بالديمقراطية.



F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.