معضلات التجربة التونسية

02 ابريل 2016
+ الخط -
تواجه التجربة الانتقالية التونسية معضلاتٍ أساسيةً، تجعل العملية الانتقالية صعبةً للغاية، ما يتطلب توخّي الحذر واليقظة السياسية، حتى لا يُترك كل ما لا يُفهم جله. ويمكن حصر هذه المعضلات في الآتي: ثقل التيار الإسلامي والحرس القديم؛ ظاهرة النقابات الأمنية؛ الإرهاب والبيئة التسلطية الإقليمية.
يمكن اعتبار الانتفاضة الديمقراطية التونسية "يتيمة" سياسياً، لأنها لم تأت بقياداتٍ سياسيةٍ، وبوجوه جديدة، تحمل همومها في مرحلة ما بعد سقوط النظام، وتعمل حتى لا تحيد عن أهدافها. إذ بمجرد نجاح الانتفاضة، ساد الانطباع لدى الشعب التونسي بأن الثورة صودرت منه، وحادت عن مقاصدها. وهو انطباع صحيحٌ ولو جزئياً، إلا أن العملية الانتخابية المنبثقة عن الانتفاضة الشعبية سمحت للتونسيين بالتعبير عن أصواتهم، إلا أنهم لم يجدوا أمامهم إلا قوى سياسية قديمة، بحلة جديدة. فمنحوا أغلبية نسبيةً إلى الإسلاميين، في أول انتخاباتٍ حرة في تاريخ البلاد. وهو تطور سياسي نوعي: انتفاضة ديمقراطية تأتي بتيارٍ محافظٍ إلى السلطة! وبما أن النظام الديمقراطي يسمح لهم بتصحيح المسار، وتعديل تصويتهم، فقد منحوا الأغلبية النسبية، هذه المرة، إلى "الحرس القديم" الذي عاد إلى الحكومة، كما إلى الرئاسة. وليست هذه الحالة نادرة، بل هي ظاهرة (عودة الحرس القديم إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع) عرفتها دول أوروبا الشرقية مثلاً. وهي معضلةٌ في واقع الأمر، لأن الانتفاضة لم تنتج جيلاً جديداً من السياسيين، يمثلون خياراً ثالثاً لإنهاء حالة الاستقطاب السياسي بين "الحرس القديم" (بمختلف أطيافه) والإسلاميين. وحتى التيار اليساري الذي كان حاضراً في الساحة التونسية لم يتمكن من بناء نفسه، وفرض نفسه في المشهد السياسي. وربما يعود السبب إلى استفحال الاستقطاب الإيديولوجي بين الإسلاميين والليبراليين/العلمانيين. من هنا الحاجة الماسّة إلى إجماعٍ وطنيٍّ حول القضايا المركزية لإيجاد حل لهذه المعضلة، وإلا ستستمر.
تتمثل المعضلة الثانية في ظاهرة النقابات الأمنية ودخولها، بشكل أو بآخر، المعترك السياسي وتظاهراتها المتعددة ضد الحكومة، وحتى في مقراتها. وهذا يطرح إشكالاتٍ ليس فقط من حيث العلاقة بين المؤسسات المنتخبة والمؤسسة الأمنية، ولكن أيضاً فيما يخص مسألة إصلاح القطاع الأمني. فضلاً عن ذلك، يعطي هذا الأمر الانطباع بأن المكلفين بتطبيق القانون في البلاد هم أول من يخرقه، فتلك النقابات تظاهرت في عز قانون الطوارئ الذي يحظر التظاهر. ما يوحي بوجود نوعٍ من "تمرد" القطاع الأمني على الحكومة المنتخبة، بغض النظر عن أدائها وصواب مطالب النقابات الأمنية من عدمه.
المعضلة الثالثة هي الإرهاب. إن العقبتين الأساسيتين أمام نجاح أي عملية انتقالية، وحتى
إصلاحية، هما الاقتصادية (تأخر نتائج الإصلاحات و/أو ارتفاع سقف المطالب الاقتصادية) وعدم الاستقرار. وتعاني تونس من نشاط حركة إرهابية تطورية، امتدت إلى العاصمة تونس ومدن أخرى، مثل بن قردان أخيراً، بعد ما كانت تنشط في المناطق الجبلية، وعلى الحدود مع الجارتين ليبيا والجزائر. ويفسد الإرهاب، بغض النظر عن حدّته، اللعبة السياسية، لأنه يجعل الحكومات عموماً تجنح نحو التسلط من خلال سن قوانين تضيق من الحريات. وإذا كانت القوانين الخاصة بالإرهاب تنتهك الحريات في الدول الديمقراطية العريقة، فما بالك في الدول غير الديمقراطية والدول الانتقالية. ومن ثم، أصبحت المقاربة الأمنية نتيجةً حتميةً للإرهاب، لكن توظيفها قد يتجاوز ضرورات مكافحته. من هذا المنظور، يشكل الإرهاب معضلةً أمنيةً وخاصة سياسيةً، بالنسبة للدول الانتقالية، لإفساده أسس العمران الانتقالي. لذا تقتضي مواجهته درجةً عاليةً من الحذر والحكمة، وعدم السقوط في فخ المفاضلة بين الأمن والحرية، ذلك أن جوهر العقد الاجتماعي الذي هو أساس العمران الديمقراطي الدولتي، يقوم على الحرية والأمن والعيش الكريم. وكل محاولة فك الترابط بين ثالوث العقد الاجتماعي محاولةٌ بائسةٌ، مآلها الفشل، وإجهاض التجربة الديمقراطية.
وكلها معضلات محلية، بعض النظر عن تفاعلاتها وامتداداتها الإقليمية، أما المعضلة الإقليمية بالأساس فتكمن في البيئة التسلطية الإقليمية. إذ تتطور التجربة التونسية في سياق إقليمي معادٍ. فهي بمثابة خنجر في خاصرة الأنظمة العربية التي تنظر بالريبة إلى هذه التجربة، لأن نجاحها، بل وحتى وجودها بشكلها الحالي، يعد تكذيباً لكل الخطابات الرسمية العربية التي تختزل الربيع العربي في مؤامرة ضد الشعوب العربية! ومن ثم، فتونس في وضعٍ لا تحسد عليه. ففي البداية، كانت في وضع "مريح" نسبياً. لكن، مع استفحال الظاهرة الإرهابية، أصبحت بحاجة إلى الأنظمة التسلطية العربية. هذا لا يعني أن للأخيرة مصلحة في انتشار الإرهاب في تونس، لكن في وسعها أن توظف هذه الورقة، للضغط على تونس خدمة لمآربها. فمثلاً، يتناغم سلوك تونس الإقليمي حيال بعض القضايا ومواقف الأنظمة العربية. وتلعب البيئة الإقليمية دوراً حسّاساً في السير الحسن للعملية الانتقالية في أي بلد، فالتجارب الأساسية في العالم، مثل تجارب شبه الجزيرة الإيبيرية وأميركيا اللاتينية وأوروبا الشرقية، تمت في وسط انتقالي إقليمي. بمعنى أن العمليات الانتقالية حدثت في سياق إقليمي انتقالي مواتٍ للغاية، ما أوجد ديناميةً ساهمت، وساعدت، في الدفع بالمسارات الانتقالية الوطنية. أما التجربة التونسية فتسبح وحدها ضد تيار التسلطية الجارف الذي استرجع قوته، بعد إجهاض الربيع العربي في ليبيا ومصر واليمن وسورية.
ومن بين كل هذه المعضلات، فإن معضلتي الإرهاب والبيئة الإقليمية التسلطية توجدان خارج دائرة التحكم التونسي. ما يتطلب حكمةً سياسيةً في التعامل معهما، حتى لا يتناقض التصرف حيالهما وأهداف العملية الانتقالية الوطنية. وعليه، فالمخاض العسير للعملية الانتقالية التونسية لا تحكمه محدداتٌ محليةٌ، بل إقليمية أيضاً، قد توثر على هذه التجربة وتشوّه عمرانها. لكن الكلمة الفصل ستكون، في نهاية المطاف، للشعب التونسي عبر صناديق الاقتراع، وهذا بحد ذاته "ثورة" في المشهد السياسي العربي.