النيوليبرالية الاقتصادية.. دعه يفترس!

15 مارس 2016
+ الخط -
دخلت المملكة العربية السعودية مرحلة اقتصادية جديدة، عنوانها المزيد من تشريع الأبواب أمام رأس المال. تكشّفت تفاصيل الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة عبر لقاء أحد صنّاع القرار مع مجلة إيكونوميست العريقة، حيث تعرّض المسؤول لعدة قرارات مهمة في طور الصياغة، منها، طرح جزء من شركة أرامكو للاكتتاب العام، وخصخصة القطاع الصحي والتعليم، والاستفادة من بعض الأراضي البيضاء التي تملكها الدولة في السياحة.
شكل تراجع أسعار النفط، مصدر الدخل الرئيسي لدول الخليج، أزمة حقيقية في توفير السيولة لسدّ العجز في ميزان المصروفات، ما فتح شهية كبرى المؤسسات الرأسمالية، مثل "موديز" لمراجعة التصنيف الإئتماني لهذه الدول، بغية الضغط عليها، وابتزازها في المستقبل، عبر حثها على مزيد من الإجراءات التي تحد من تدخل الدولة. هذا الوضع الاقتصادي متوقع، فمنذ عرفنا سلعة النفط، عرفنا معها تقلباتها السريعة، ولا ينبغي أن يكون مُفاجئاً لأحد، خصوصاً، من عاش أرتفاع الأسعار في بداية السبعينات، ثم هبوطها الحاد مطلع الثمانينات. لكن الأنكى هو الإجراءات المكرّرة التي يتم بها معالجة الأزمة، حيث تقوم، بالدرجة الأولى، على صرف ما تم ادخاره في سنوات "الطفرة"، لتغطية عجز الميزانية، ثم الاعتماد على رفع الدعم عن الخدمات التي يحصل عليها المواطن، كالكهرباء والبنزين، وفتح السوق أمام رأس المال المحلي والأجنبي، للانقضاض على المؤسسات العامة التي تخطط الحكومة لخصخصتها.
كانت المقولة الليبرالية الكلاسيكية الشهيرة تقول "دعه يعمل دعه يمر"، في إشارة إلى فتح السوق على مصراعيها أمام رأس المال، لكي يتحرك بانسياب وحرية، من دون عائق، أو رقيب من الدولة، أو ممثليها في البرلمان، وكان التنظير لهذه الأيديولوجية الهشّة من حيث البنيان، والقوية من حيث الطغيان، كالتالي: في حال تم فتح الأسواق أمام رأس المال، فإن نمواً اقتصادياً حتمياً سيحدث، بما يضمن أن الفائض منه سينتقل، بشكل تدريجي، إلى الشرائح الاجتماعية التي تليها تلقائياً، وأن العقل البشري يتفتق أكثر والإنتاجية تتضاعف، إذا ما كان الإنسان حراً في استثمار أمواله، حيثما وجدت الفرصة. لذا، يجب إلغاء القيود القومية على تدفق رأس المال الأجنبي، وتخفيض الضرائب المحلية على الشركات العالمية. الفيلسوف الأميركي ميلتون فريدمان أحد كهنة هذه المدرسة، والذي طرح في كتابه "الرأسمالية والحرية" الشروط التالية لتحقيقها: السوق الحر، الحرية، إزالة جميع الضوابط الاقتصادية أمام رأس المال، الخصخصة أو بيع ممتلكات الدولة التي لا تذر أرباحاً، وأن تحدّ الدولة من نفقاتها العامة، بتقليص دورها في توفير خدمات الضمان الاجتماعي.

لكن هذا النموذج الاقتصادي الذي استفرد بالعالم بعد تراجع الاشتراكية، وذلك بقوة الحضور الإعلامي والأكاديمي، مُني بانتكاساتٍ عديدة، كان جديدها أزمة عام 2008، عندما غرقت كبرى المصارف في أزمتها، ما اضطر هؤلاء المنظرين لاستجداء الدولة المركزية للتدخل السريع، وإنقاد المصارف من الانهيار.
إذاً، لم تنجح الفلسفة النيوليبرالية في تحقيق ما زعمت أنه صلاح للاقتصاد والمجتمع، لا من حيث الازدهار الاقتصادي، ولا من حيث تقليص عدد الفقراء، ولا من حيث الحفاظ على معدلات التضخم. فشل السوق في تصحيح أوضاعه بنفسه، وقد احتاج رموز رأس المال (البنوك) لتدخل الدولة لإنقادهم من الانهيار، وهذا الانقاد هو بالضرورة لصالح رأس المال، وليس المجتمع الذي أنهكه انخفاض الأجور في مقابل تعاظم الاستهلاك بواسطة هذه السياسة.
وقدّم البرفسور جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، نقداً لاذعاً لأنصار النظرية اللنيوليبرالية في كتابيه "الفجوة الواسعة" و"تكلفة اللامساواة". اكتشف ستيغليتز أن الرأسمالية كانت في أوج عطائها لديها في 1950. مع هذا، كانت الشوارع تعج بالمظاهرات الاحتجاجية التي ينفذها عمال المصانع، كما أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء في اتساع مضطرد. أطلق ستيغليتز وصف "اقتصاد الواحد في المائة" على النظام الاقتصادي الأميركي، لأن 1% من الشعب يملكون ثلث الثروة الوطنية، ثم يشرح الكاتب فكرته بالقول إن هذه الظاهرة ليست نتيجة مشكلات تقنية في النظام الاقتصادي، لكنها نهاية حتمية لطبيعة النظام الاقتصاد السياسي في الولايات المتحدة، بحيث تقود جميع السياسيات المتبعة فيه، بدءاً من قانون العمل، وصولاً إلى النظام الضريبي للمكان نفسه. تمركز الثروة في يد أقلية.
في كتابه الجديد "حكم العالم الجديد"، يصوّب جورج قرم، سهاماً كثيرة على النظرية النيوليبرالية، ويحمّلها مسؤولية الفشل في الخروج من الأزمات الاقتصادية المتوالية التي تصيب الفقراء والطبقة الوسطى، من دون أن تمس الأغنياء، وذلك عبر سياسة الهروب من النقاش الجدي حول النظرية لسجلات سطحية وهامشية، بحيث ينجو رأس المال بنفسه، في كل مرة، من المساءلة الأخلاقية والإدانة السياسية؛ وذلك بسبب هيمنة أنصار النظرية على المجالين، الأكاديمي والإعلامي، وتحديداً مدرسة شيكاغو التي تصدرها فريدمان نفسه.
لا تخرج توصيات مراكز الأبحاث الغربية من عباءة النظرية النيوليبرالية، لأنها مُهيمنة. لذا، من مصلحة صانع القرار أن يُمعن النظر في النتائج التي وصلت إليها النظرية في بلادها الأم، ثم التفكير ألف مرة، قبل تطبيقها في مجتمع نامٍ.





59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"