ماذا بعد فشل "الممرّات الإنسانية" في سورية؟

08 نوفمبر 2016
+ الخط -
لا يستطيع المرء أن يهرب من التشابه الثقيل بين الهدنة الروسية التي فشلت في حلب ونوع آخر من الهدن السورية التي درج النظام الأسدي على ممارستها. تتوجه الهدنة الروسية إلى مئات آلاف المحاصرين في شرق حلب، للخروج عبر "ممرّات إنسانية"، أو البقاء تحت الحصار واستئناف القصف، "الباص الأخضر أو الموت الشنيع"، بحسب مناشير النظام السوري المصورة، ففي وقت "الهدنة الإنسانية" التي أعلنتها موسكو من جانب واحد في حلب، كانت حاملة الطائرات الوحيدة التي تملكها روسيا تقود قافلةً من سبع سفن باتجاه الساحل السوري، لرفع منسوب القوة، باعتبارها الوسيلة الوحيدة لإنجاح فكرة الممرّات. أما الهدن السورية فكانت تتوجه إلى سجناء سياسيين مغلوبين، للخروج من السجن عبر التوقيع على شروطٍ تنتقص من كرامتهم الشخصية، دع عنك جانبها السياسي. في الحالين، مطلوب منك أن تترجم ضعفك المادي إلى ضعف معنوي وسياسي وأخلاقي أيضاً. مطلوب منك ليس فقط أن تتخلى عما تريد تحت ضغط القوة، مطلوب منك أن تنكسر، لكي تستمر مكسوراً. في الحالين، هناك ثابتٌ لا تطاوله فكرة التغيير، هو النظام السياسي الذي عليك أن تخضع له، أو تواجه المشقات والخسارات الشخصية اللامحدودة، وصولاً إلى الموت.
الحق أن النظام السياسي الذي لا يقوم على أساس شرعيةٍ مستقرة لا يعنيه كثيراً أن سجين الرأي قد تعب ويئس واقتنع بالانكفاء على ذاته، أو أنه غيّر قناعته السياسية، وبات على قناعاتٍ أخرى، قد تكون قريبةً من المجال الفكري السياسي للنظام. هذا يسعد النظام الأمني بلا شك، لكنه جانبٌ ثانويٌّ في منطق هذه الأنظمة، لأنها أنظمة لا تقوم على القناعة، بل على الخضوع. المهم أن تخضع، الخضوع أهم من الاقتناع. الاقتناع فعلٌ حر غير مستحب، ولا يعول عليه كثيراً، وذلك لأنه قابل للتبدّل بتبدل المعطيات، أما الخضوع، فإنه يدخل القناعات والآراء، ويجعلها موحدة أو متشابهة، والأهم أنه يجعلها مضمونة الثبات، وغير عرضة للتبدل الحر.
والحال هو كذلك في "الممرّات الإنسانية" الروسية. ليس الغرض من هذه الممرّات أن تكون
إنسانيةً، كما سُميت. ليس المقصود منها إنقاذ أرواح مدنيين، احتراماً للحياة، باعتبارها قيمة عليا، المرجو منها أن تكون ممرات إخضاع، يدخل عبرها السوريون "الذين هناك" إلى حظيرة السوريين "الذين هنا"، بعد أن أدركوا، بجوعهم وموتهم، أن النظام لا يتغير، أو أن لتغييره ثمناً ليسوا جاهزين لدفعه..إلخ. هكذا هي بالضبط هذه "الممرّات الآمنة" في عين النظام السوري. أما كلام المتحدثة باسم مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية ستيفان دي ميستورا "إن المنظمة ضد إجلاء المدنيين ما لم يكن ذلك طوعاً"، فليس سوى هراء. هل من طواعيةٍ في ظل حرب؟ وكيف يترك مدنيون بيوتهم وممتلكاتهم وأحياءهم طوعاً؟
قد تحمل هذه الممرّات في العين الروسية معنىً إضافياً، يفرضه البعد العالمي للموضوع السوري، الذي يدفع روسيا إلى الاهتمام بالحد من النقد الدولي، فضلاً عن تفاديها القوة الحالية للإعلام التي جعلت فلاديمير بوتين ينفعل في مؤتمر فلدائي في 27 أكتوبر/ تشرين الأول: "أسمع دائماً حلب، حلب، حلب، ما هي المشكلة هنا؟"، بعد أن أشاد بالتجربة الإسرائيلية في مكافحة الإرهاب الفلسطيني (!).
لا يتوقف التشابه عند هذا الحد، بين ممر السجناء السياسيين في سورية إلى "الحرية"، وممر المحاصرين في حلب إلى مناطق النظام، فالتشابه يطاول استجابة المغلوبين أو الضعفاء أيضاً. هنا وهناك، تجد نسبة عالية من الرفض وعدم الاستجابة، مع ما يحمله هذا من قبول الرافضين بنهاية تعيسة، من دون القبول بكسر النفس.
يمكن تلمس عناصر عديدة لتفسير إحجام المدنيين المحاصرين في حلب عن الخروج عبر الممرّات الروسية. هناك خوف المدنيين من سطوة الفصائل المسلحة التي رفضت، في مجملها، الخروج، وخوف المدنيين من غدر النظام بهم، فهم يعرفون ما حصل في حمص من قبل، حين أُهين عديدون، واعتقل عديدون من الخارجين على الحواجز. ومن دلالات الغدر المبيت رفض روسيا تسليم المعابر إلى الأمم المتحدة، وقد ذكرت تقارير صحافية أجنبية، وجود "قضاة"، كما يسميهم تقرير مراسل "نيويورك تايمز"، على الممرات لفرز المطلوبين للنظام من بين 
الخارجين. ولكن، إضافة إلى هذه الأسباب السياسية، لا بد أن هناك دوافع إنسانية عميقة لعدم الخروج. هناك من رفض الخروج، حتى لو كان مقتنعاً به، لأنه لا يقبل أن ينجو فيما يبقى الآخرون الذين يشاركونه الظروف نفسها، عرضةً للموت. وهناك أيضاً من يرفضون الخروج نوعاً من الانتصار لأنفسهم ضد جبروت القوة المحضة. هناك من يرفض الخضوع، مهما كانت العواقب. لا شك أن في النفس البشرية ما يبقى عصياً على الكسر، وما يمكن أن يجعل المرء يقبل الموت لقاء موقف. ويبقى ثمة نسبة من الناس، تقلّ أو تكثر، أمينة لهذا السر البشري الرائع. المدني الذي رفض الخروج لا يعني أنه يفضل الفصائل المسلحة، إلا بقدر ما يعني أن السجين الذي يرفض قبول شروط النظام للإفراج عنه يفضل حياة السجن.
الكلام عن ممرات الإخضاع ونقدها وإدانة دوافعها الحقيقية بوصفها دوافع تسلط وقهر وليست دوافع إنسانية وتصالحية حقيقية، لا يتضمن أي إغفالٍ للطبيعة التسلطية للفصائل الإسلامية التي تقاتل النظام هناك. ولا يتضمن أي قبولٍ بفكرها أو سلوكها الطائفي الشبيه بسلوك النظام وحلفائه، لكنه يتضمن القول إن الحل العنيف القائم على القوة المحض يعزّز الفصائل الإسلامية، بدلاً من عزلها، وإن فشل تجربة هذه الممرات نموذج مصغر عن الفشل العام الذي يحكم مقاربة النظام وحلفائه للخروج من الكارثة السورية.
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.