عام من الفراغ الرئاسي في لبنان

24 مايو 2015
+ الخط -
في افتتاحية صحيفة النهار اللبنانية، يوم الخميس 21 مايو/أيار الجاري، يشير المحامي زياد بارود، وزير الداخلية السابق، إلى أن المؤتمر التأسيسي الجاري "التمهيد له أو التهديد بشأنه أو الحلم به" في لبنان يأتي في وقت أثبت فيه "نظامنا الدستوري السياسي عجزه عن إدارة التنوع ضمن الوحدة". ولقد لفت نظري استخدام الوزير بارود كلمة "التنوع"، في معرض إشارته إلى الطوائف اللبنانية المختلفة، عوضاً عن كلمة "التعددية". فالتعددية الطائفية تعني أن المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفرد تختص بطائفته، ويمكن أن يحققها له، وبالنيابة عنه، زعيم طائفته. فالزعيم يمثل حقوق الأفراد في طائفته، وبالتالي، يصبح فوق أي انتقاد أو محاسبة، إذ محاسبته لا تعني محاسبة شخصه باعتباره مسؤولاً سياسياً، بل تعني اضطهاد الطائفة التي يمثلها برمتها. 

تؤكد التعددية، إذاً، أن لا شيء يجمع بين هذه الطوائف سوى الكيان الجغرافي. أما التنوع، في المقابل، فهو يضع، أولاً وأخيراً، حقوق المواطنين وواجباتهم، جميع المواطنين، فوق كل اعتبار. إذاً لا بد لنا من إزالة الالتباس بين التعدد الطائفي والتنوع الطائفي. فالتعددية، كما هو حاصل في لبنان، تفتقد إلى مفهوم المواطنة التي تجمع بين أبناء الوطن الواحد. أما التنوع فهو انتماء إلى وطنٍ جامع، يضمن حقوق المواطن.

ومن هذا المنظار، يمكننا فهم الأزمة الرئاسية الحاصلة اليوم. ففي الخامس والعشرين من هذا الشهر يكون قد مر عام كامل على الفراغ الرئاسي في لبنان. وهو فراغ يعتبر سابقة خطيرة في تاريخ البلاد، نظراً لأهمية موقع رئاسة الجمهورية، المؤتمنة على ضمان احترام الدستور، وإن كانت صلاحياتها قد تقلصت، بعد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية عام 1989. فالتعددية، كما نشهد حالياً، تتيح لطائفة، أو لمجموعة من النواب، استخدام حق النقض، وتعطيل جلسات البرلمان لانتخاب رئيس، وهو أمر غير موجود في أي دولة. الأسوأ في ذلك أن هذا البرلمان يجدد لنفسه، ويجتر الأخطاء السابقة المرتكبة، لا بل يكرس أكثر فأكثر تعددية اللبنانيين وتشرذمهم. وقد بلغ السيل زباه مع التعددية الطائفية اللبنانية، بعد أن أضحت الطوائف تأخذ قراراتها من دون العودة، إلى مطالب وتطلعات أبناء البلد نفسه، أو حتى الاكتراث بها. هذا الفراغ يجب أن يكون استثناء، وأن لا يعتبر سابقة تجيز للبنانيين تكرارها في المستقبل. رئيس الجمهورية هو أساس وحدة البلاد والسهر على احترام حقوق جميع المواطنين وواجباتهم من دون أي استثناء.

قبل الاستقلال، كانت الطائفية في لبنان مستترة، أقل ظهوراً للعيان. ففي ظل الانتداب الفرنسي، تم انتخاب بترو طراد الأرثوذكسي رئيساً للبلاد، إذ كان الاتفاق حينها يقضي بأن يكون الرئيس مسيحياً، وليس مارونياً حصراً. جاء الاستقلال ليجعل من التفاهمات الطائفية تقليداً سياسياً، بحيث إن رئاسة الجمهورية آلت إلى الموارنة، ورئاسة الحكومة إلى المسلمين السنة، ورئاسة مجلس النواب إلى المسلمين الشيعة. وأضحى هذا التقليد واقعاً دستورياً، بعد اتفاق الطائف الذي كرس تقاسم زعماء الطوائف للمناصب الرئاسية. وما نخشاه أكثر ما نخشاه اليوم في ظل الانقسامات المهولة التي نشهدها، أن يخلف المؤتمر الدستوري انقسامات جديدةً، تبعدنا أكثر وأكثر عن مفهوم المواطنة.


وهنا، لا بد من الإشارة إلى أنه، ومع تفاقم أزمة التعددية، تزداد مخاوف الأقليات، ويتم اللعب على وترها، لتحقيق مآرب شخصية وفردية للزعماء. فلا بد من تذكير اللبنانيين المسيحيين أن وطنهم في اللاوعي العربي بلد محبوب، يسعى جميع العرب إلى بقائه واستمراره وازدهاره. ولقد كان هناك إجماع عربي عريض يوم تم منح منصب الرئاسة للمسيحيين، وكان الغطاء عربياً قبل أن يكون غربياً. لذا، عوضاً عن التقوقع عليهم احتضان بُعدهم العربي.
لعل هذا المؤتمر الدستوري يشكل حدة من الاستقطاب أدت إلى الاغتراب، وهناك حاجة للتجسير. حبذا لو كان النظام الدستوري اللبناني معنياً بإدارة التنوع، فعندها يكون اللبناني مواطناً وليس فرداً في طائفته، حقوقه يشرعها دستور، لا يميّز بين طائفة وأخرى. فإذا كان من شأن المؤتمر الدستوري المزمع عقده أن يحدد حقوق المواطنين وواجباتهم، وليس مكاسب الطائفة، عندها يكون مؤتمراً جديراً بالتشجيع. الحل للأزمة الرئاسية الحالية لا يمكن أن يكون من خلال مزيد من تكريس الطائفية، أو الاستقطاب السياسي الدائر. لذا، قد يكون من الأجدى الدعوة إلى اختيار شخصية لبنانية من المجتمع المدني، ومن أصحاب الكفاءة لإدارة البلاد، ولعل الأستاذ زياد بارود من أبرز تلك الشخصيات التي يمكنها المساهمة في تكريس "التنوع" على حساب "التعددية" في منصب الرئاسة اللبنانية.