دونالد ترامب عنوان أزمة جمهورية وأميركية أوسع

04 ديسمبر 2015

صعود دونالد ترامب يعني أزمة في الحزب الجمهوري (Getty)

+ الخط -
التفسير الوحيد الذي يمكن تقديمه لاستمرار صعود رجل الأعمال الأميركي، والمرشح الرئاسي الجمهوري، دونالد ترامب، في استطلاعات الرأي في أوساط الحزب الجمهوري، هو أن هذا الحزب يعيش أزمة حقيقية، جراء جنوح قواعده نحو الخطاب اليميني المتطرف، بشكل قد يكلفه انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ففي الاستطلاع الذي أجرته، قبل أيام، جامعة كوينيبياك الأميركية، فإن الأخير لا زال متقدماً، وبفارق كبير، للشهر السادس على التوالي، في استطلاعات الرأي، على باقي المرشحين الجمهوريين، بمن في ذلك المرشحون الجادون، مثل حاكم ولاية فلوريدا السابق، جيب بوش، وحاكم ولاية أوهايو، جون كيسيك. وحسب نتائج الاستطلاع، يتصدر ترامب المشهد، على المستوى الوطني، جمهوريا، بـ27%، في حين أن أقرب منافسيه، السيناتور ماركو روبيو، حصل على تأييد 17% في صفوف الحزب. الأكثر قتامة في المشهد، بالنسبة للحزب الجمهوري، أن روبيو، لم ترتفع نسبة تأييده في الحزب، إلا عندما مال خطابه نحو اليمين أكثر. ويؤكد معطى جنوح الحزب نحو التطرف في خطابه، أن المُرَشَّحَيْنِ، الثالث والرابع، من حيث نسبة التأييد، هما، جرّاح الأعصاب المتقاعد، بين كارسون، والسيناتور، تيد كروز، وكلاهما يمينيان متطرفان.
وعودة إلى ظاهرة ترامب، استمرار صعوده في استطلاعات الرأي يقرع، منذ أشهر، أجراس الإنذار في دوائر الحزب الجمهوري. ففي كل مرة، ظنت فيها المؤسسة المركزية في الحزب "establishment"أن الرجل قضى على حظوظه بنفسه جرّاء خطاب التطرف والسفاهة الذي يلجأ إليه، فإنها فوجئت بأن الدعم له يزداد أكثر فأكثر في قواعد الحزب. بمعنى أن المشكلة ليست في ترامب تحديداً، وإنما في القاعدة الانتخابية للجمهوريين كذلك.
عندما أعلن ترامب ترشحه في يونيو/حزيران الماضي، لم يأخذه أحد من مرشحي الحزب، ولا من الإعلام الأميركي والمحللين السياسيين، على محمل الجد. ظن الكل أن هذا الرجل سيكون مادة للسخرية الإعلامية والسياسية، خصوصاً أنه معروف بخفته ورعونته وكثرة سقطاته اللفظية. وفعلا، لم يخيب ترامب التوقعات. ففي المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه ترشحه، شن ترامب هجوماً شرساً على حكومة المكسيك، واتهمها بإرسال أسوأ أنواع المهاجرين إلى أميركا، من المجرمين وتجار المخدرات و"المغتصبين الجنسيين". وعلى الرغم من أن ذلك التصريح جلب عليه غضباً عارماً من داخل الحزب الجمهوري، ومن الأميركيين ذوي الأصول اللاتينية، وعلى الرغم من استغلال الحزب الديمقراطي ذلك التصريح، إلا أن ترامب أصر على خطابه المهين ذاك، وكانت المفاجأة بأن تلك التصريحات عزّزت موقعه في استطلاعات الرأي الجمهورية، ولم تضعفه. ولكن، إذا كان ترامب قد استفاد من عداء القاعدة الانتخابية الجمهورية للمهاجرين، فهذا لا يعني أن الحزب نفسه استفاد، بل على العكس من ذلك. فعدد ذوي الأصول الإسبانية في الولايات المتحدة يبلغ 55 مليون شخص، منهم 35 مليونا (65%) من أصول مكسيكية، ومن الصعب على الحزب الجمهوري أن يكسب الانتخابات الرئاسية المقبلة، وخصوصاً في ولايات يوجد فيها ذوو الأصول الإسبانية بكثافة، مثل ولاية فلوريدا، من دون أن يحدثوا اختراقات ضمن هذه المجموعة العرقية.

ثمّ جاء بعد ذلك، في يوليو/تموز الماضي، هجومه على السيناتور الجمهوري، جون ماكين، وتشكيكه في "بطولته" محارباً وأسيراً سابقاً في حرب فيتنام، معلنا: "أحب الناس الذين لا يؤسرون". ومرة أخرى، وعلى عكس كل التوقعات، ارتفعت شعبية الرجل، ولم تؤد تلك التصريحات إلى انهيار حملته الانتخابية. ولم يطل به المقام طويلاً، حتى كان ترامب يثير لغطاً جديداً. ولكن، هذه المرة، عبر إهانة النساء. فبعد انتهاء المناظرة الجمهورية الأولى في كليفلاند/أوهايو في أغسطس/آب الماضي، أطلق ترامب تصريحاتٍ تعبر عن امتعاضه من إحدى مديراتها، المذيعة المشهورة في محطة "فوكس نيوز" التلفزيونية اليمينية، ميغين كيلي، ووصل به الحد إلى التلميح بأن سبب الأسئلة "السخيفة" التي وجهتها إليه في المناظرة أنها كانت تعاني من آلام الحيض. ومرة أخرى، ظن الجميع أن تصريحات ترامب تلك كانت الضربة القاضية له، خصوصاً وأن كيلي تتمتع بشعبية عالية بين المحافظين، غير أن استطلاعات الرأي، بعد المناظرة وتصريحات ترامب، فاجأت الجميع، إذ أظهرت ترامب متقدماً على أقرب منافسيه، حينئذ، بعشر نقاط كاملة (23%) في مقابل 13% لكارسون بين من يذهبون إلى الانتخابات التمهيدية عادة، في حين كان تقدمه على المستوى الوطني، حينها، 32%.
وكما في تصريحاته المسيئة للمكسيكيين، فإن مشكلة الجمهوريين في تصريحات ترامب حول كيلي، تذهب إلى أبعد من التوظيف السياسي بين الأطراف المتنافسة جمهورياً، فهذه التصريحات تمس، مباشرة، فرص الجمهوريين، للفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ذلك أن النساء قوة تصويتية مؤثرة جداً في الولايات المتحدة.
أما استطلاع الرأي الذي بدأنا بالإشارة إليه في هذا المقال، فقد جاء بعد سلسلة تصريحات مسيئة جدا، وبعضها ثبت كذبه، صدرت عن ترامب. من ذلك، مثلاً، حديثه عن أنه سيعمل على إنشاء قاعدة بيانات منفصلة للمسلمين الأميركيين، ومنحهم بطاقات هوية مغايرة لباقي الأميركيين. ثمّ أتبع ذلك بحديث عنصري عن اللاجئين السوريين الذين أعلن البيت الأبيض نيته السماح لعشرة آلاف منهم باللجوء إلى الولايات المتحدة. ولم يلبث الأمر طويلاً، حتى كان ترامب يلقي قنبلته الأكبر، بالزعم أن الآلاف من المسلمين الأميركيين، في ولايتي نيويورك ونيوجرسي، شوهدوا وهم يحتفلون بانهيار مبنيي التجارة العالمي يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001، وأنه شاهد شخصياً، من مكان إقامته في نيويورك، سقوط المبنيين. وعلى الرغم من تفنيد وسائل الإعلام الأميركية، وأجهزة الأمن في الولايتين، مزاعمه تلك، إلا أن الرجل استمر في الصعود في استطلاعات الرأي جمهورياً. المثير، هنا، أن ثمة إجماعاً على أنه لم يكن يمكن لترامب رؤية انهيار مبنيي التجارة العالمي ذلك اليوم من مكان إقامته، كما زعم، كما أن زعيمين جمهوريين كذّباه بشأن مزاعمه باحتفال آلاف من المسلمين في نيويورك ونيوجرسي بالهجمات، وهما، عمدة نيويورك، وقت الهجمات، رودي جولياني، وحاكم ولاية نيوجيرسي، كريس كريستي، إلا أن ذلك لم يغير في المعادلة شيئا. وينسحب الأمر نفسه على استهزاء ترامب اللاأخلاقي بإعاقة صحفي أميركي، لكن القاعدة الانتخابية للحزب الجمهوري تبدو وكأن العنصرية والتطرف قد أعمياها عن كل ذوق واعتبار إنسانيين.
لا يساوي كل ما سبق شيئاً أمام تأثير خطاب ترامب العنصري المتطرف، والسطحي كذلك، على خطاب الجمهوريين. فالحزب الجمهوري يجد نفسه، الآن، مضطراً إلى مجاراة يمينية قواعده وتطرفهم وعنصريتهم. ولذلك، لم يكن مستغرباً أن يواجه الحزب، في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، صعوبة في إيجاد شخصية تقبل رئاسة مجلس النواب، تخلف الجمهوري جون بينر، على الرغم من تمتع الجمهوريين بأغلبية مطلقة في المجلس. فقد استقال بينر بسبب تعاظم دور اليمين في الحزب الجمهوري، وبين ممثليه في مجلسي الشيوخ والنواب، وكل من أراد خلافته، كان لابد أن يأخذ ذلك في الاعتبار، وهذا ما فعله رئيس مجلس النواب الحالي، بول رايان، والذي بدأ عهده بإعلان التباين الحاد مع إدارة الرئيس باراك أوباما، لإرضاء التيار اليميني في الحزب.
ثالثة الأثافي، وهذا هو الأهم، في سياق ما يعني العرب والمسلمين، بل والعالم بأسره، حيث إن وصول مرشح جمهوري يميني يحمل آراء متطرفة وتسطيحية إلى سدة الحكم، سيجعل من رئاسة جورج بوش الابن الكارثية، تحت تأثير تيار المحافظين الجدد، ذكريات جميلة، مقارنة برؤساء من أمثال ترامب أو كارسون أو روبيو أو كروز. قد يقول بعضهم إن من الصعب أن يربح مرشح يميني جمهوري متطرف الانتخابات العامة، وهذا مرجح، غير أن استطلاعات الرأي نفسها، لا تبعث على ذلك القدر من الاطمئنان والتفاؤل إلى الآن. فحسب استطلاع جامعة كوينيبياك نفسه، لو أجريت الانتخابات الرئاسية اليوم، وكانت المرشحة عن الحزب الديمقراطي هي هيلاري كلينتون، فإنها ستحصل على 47% مقابل 41% لترامب. و45% مقابل 44% لروبيو. و47% مقابل 42% لكروز. و46% مقابل 43% لكارسون. بمعنى، أنه حتى الرأي العام الأميركي ليس بعيداً عن اليمينية والتطرف والتسطيح اليوم، وهذا أخطر ما في الأمر للعالم بأسره.