عصفور عمر بن الخطاب في المنفى

03 ديسمبر 2015

عصفور يحدق في الأشياء

+ الخط -
أعددت خطبة ممتازة، دبّجتها في رأسي، ونظمتها مثل اللؤلؤ، وحلّيتها تحلية بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة. ابن العم "غمكين" نزح من "قامشلوكي"، لأسباب غير التي نزحت من أجلها. خاصمه الحجي بعد تكريم وترحيب، فوعدته بإصلاح ذات البين، فالحجي صديقي، وأنا شريكه في نزهة العصر اليومية في حديقة أوسمان باشا. لأجعلنّه يزورك ويلاطفك، بل وليعتذرنّ منك، يا غمكين، اعتذارا.
اسمه غمكين، فالكرد، في الهزيع الأخير من عصر القوميات، جنحوا إلى الأسماء الفاجعة. حفظت الآيات الكريمة التي تحضّ على الإحسان والعفو، واستذكرت الأحاديث الشريفة الكثيرة، وقصص السيرة النبوية والتاريخية عن فضائل الإنفاق "فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ "، والمرأة التي دخلت النار في هرّة، والرجل الذي دخل الجنة في سقية كلب... الترك يعطفون على الحيوانات عطفاً غير عطف الأوروبيين، فهم يحسنون إليها لله، من غير استحواذ أو "تبنٍ"، وينثرون، في يوم محدد في السنة، الطعام على رؤوس الجبال، استذكارا لمأثرة عمر بن عبد العزيز الشهيرة. وفي الشوارع دائماً تجد طعاماً للهررة، وكان الصديق فرج بيرقدار في زيارة لإسطنبول قد أبدى رضاه على الحضارة التركية قائلاً: أمة تحسن للكلاب هي بخير.. وإذا كان الإحسان للحيوان يدخل الجنة، فكيف لابن أخيك غمكين النازح الضيف إلى جوارك.. هكذا سأختم خطبتي، فينهض باكياً، ونهرع سوياً إلى دارة غمكين، ليعتذر منه ويقبّل رأسه.
جلست مع الحجي، بعد أن اصطحبت كيساً كبيراً من الصمون، الذي كنت أختلسه من فوق السور، بجانب حاوية القمامة، من أجل إطعام حمام حديقة أوسمان باشا، كتبت ما يسميه الطلاب الغشاشون في الامتحانات "روشتة"، ولصقتها بأسفل الهاتف، حتى لا أنسى آية مهمة أو حديثاً شريفاً. الحجي رجل تقي، يصلي الجمعة في مسجد مولانا جامي. يحضر في وقار صارم، ويتجه إلى خزانة يدّخر فيها لفةً، يعصبها على رأسه، فهو يعتقد أنها سنة نبوية، ويتأخر في الخروج، حتى يكون الأخير بعد أداء "تراويح" من الصلوات النوافل! كنت موقناً أني سأليّن الحديد، ومن جملة القصص التي رويتها له، في خطبتي الطويلة، في سياق حديثي عن الإحسان والعفو، وأنا أنثر الخبز للحمام الذي اجتمع حولنا ليسمع خطبتي العظيمة، قصة عمر بن الخطاب مع العصفور، وهي؛ أنّ ابن عباس رأى عمراً رضي الله عنهما في المنام، بعد وفاته بليلتين، فقال له: كيف حالك يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: طاشت تلك الإشارات، وضاعت تلك العبارات. فقال له: ماذا صنع الله بك؟ قال عمر: والله، إن كاد عرشي أن ينهد، لولا أن لقيت الله غفوراً رحيماً. قال له: لنصرتك للإسلام؟ قال: لا. قال: بعلمك؟ قال: لا. قال: بعدلك؟ قال: لا. قال: إذاً لماذا؟ قال عمر: كنت أسير بالمدينة يوماً، ورأيت أطفالاً يلعبون بعصفـور قد قيّدوه بخيط، ففككته، فطار العصفور.
فقيل لي: يا عمر، فككت إسار العصفور، ونحن نفكُّ إسارك اليوم من النار، وندخلك الجنة.
هنا، وقف الحجي بغتة، وقد تلوّن وجهه، واعتكر، فطار الحمام، وكأن عشر طلقات خردق 12 ملم أطلقت عليها، وبقي غراب عنيد له فكّا ضبع. قال: يعني لم ينفع عمراً عدله، وتقواه، وجهاده، وزهده، لولا ذلك العصفور الحقير! طاش سهمي، وضاعت عباراتي، تلعثمت، وبلعت ريقي، وانشغلت بورقة الغش التي سقطت، وأنا أحاول الاعتذار عن الرواية: هي قصة غير مثبتة، وهي حلم رآه ابن عباس. وهكذا، بدلاً من أن أصلح ذات البين بين العمومة، جعلت الحمام كله يطير، وبقي العصفور مكبلاً بالخيط، الوحيد الذي صمد هو غراب البين الأسود. .. كان ينعق منتصراً.
أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر