عن الإعلام والنُّخَب

08 يناير 2015
+ الخط -
يُعرّف عالم الاجتماع الإيطالي، باريتو، النخبة بأنها "مجموعة من بشر، تتفوّق في مجالات عملها، في أثناء لعبة الحياة، وتتمتع بقدرتها على ممارسة وظائف سياسية، أو اجتماعية، تخلق منها طبقة حاكمة، ليست مشروطة بالتأييد الجماهيري، لأنها تقتصر، في حكمها، على مواصفات ذاتية، تتمتع بها، ما يؤهلها لاحتكار المناصب". كان هذا سابقاً، قبل غزو الإعلام الفضائي ووسائل التواصل الاجتماعي عبر الشبكة العنكبوتية. يومها كانت النخب تستند إلى منجزٍ قوامه الوعي المعرفي وتراكم الخبرة وحساسية الذائقة وسعة المدارك والرؤية الاستشرافية للمستقبل، والقدرة على توصيف الحاضر وتشريح الماضي، ما لم يكن متوافراً لدى العامة، بما هي عكس النخبة.
وعلى الرغم من أن باريتو اقتصر في تعريفه النخبة على السياسيين، واعتبرها من تشكّل الطبقة الحاكمة سياسيّاً واجتماعيّاً، إلا أن مفهوم النخبة اتخذ، لاحقاً، تعريفات عديدة، لعلّ أكثرها انتشاراً القدرة على التأثير في الوعي الجمعي، وتشكيل رأي عام، وعلى الرغم من انتشار هذا التعريف، إلا أنه بقي بعيداً عن الواقع، في بلادنا العربية على الأقل، فلم تستطع النخب العربية، السياسية والفكرية والثقافية، التنويرية منها، لأسباب عديدة ومعقدة، متعلقة ببنية مجتمعاتنا من جهة، وبعدم التطور الطبيعي لهذه النخب، كما كان حالها في أوروبا، ولأن معظمها كان وليد هزائم سياسية وأيديولوجية كبرى، لم تستطع ترك أي أثر تراكمي في مجتمعاتنا، ولم تتمكن، بداهة، من تشكيل رأي عام، يمكن التعويل عليه في أي فعل تغييري. ظل تأثير تلك النخب محدوداً ومحصوراً بفئات قليلة، كانت تستعد لتصبح نخباً قادمة. أنتجت تلك النخب القليلة، إذن، نخباً مشابهة لها في النوع وفي العدد، من دون أن تمتلك النخب الجديدة خاصية التجاوز لسابقتها، نخب تنويرية مهزومة، أنتجت نخباً مهزومة مثلها، ظل الأمر يشبه المراوحة في المكان. تتمحور النخب حول ذاتها، وتنتج ما يشبهها، بينما تركت المجتمعات، بعامتها، لما هي عليه، ضحية الاستبداد السياسي وحليفه الديني الذي لم يجد صعوبة في تحوله إلى نخبة مرحب بها لدى العامة، فهو يلامس وجدانها الغيبي العفوي، ويتلاعب بغرائزها، مستغلاً الفجوة الكبيرة التي خلّفها ابتعاد النخب التنويرية عن المجتمع.
هكذا تحوّل رجال الدين، بكل فئاتهم، إلى نخب مؤثرة في المجتمعات الصغيرة والكبيرة، مثلما تحولت الطبقة المقربة من الأنظمة إلى نخب سياسية واقتصادية وثقافية. ولأن مؤهلاتها الوحيدة التقرّب من الأنظمة والانتهازية، فإن تأثيرها في المجتمع كان مشابهاً لها، تعميم ذهنية القطيع اللازمة لاكتمال دائرة الاستبداد، وتغيير المفاهيم المجتمعية، بما يتناسب مع الفساد السياسي
وحليفه الديني، ويقيهما من خطر محاولات تغيير واقع الحال. وترافق ذلك كله مع طفرة الإعلام والفضائيات، حيث تم استغلال الإعلام المرئي بشكل مروع من الأنظمة الحاكمة وأجهزتها وحلفائها، لتكريس حالة الثبات والسكون في المجتمع وتعزيز ثقافة القطيع. انتشرت قنوات الترفيه الرخيصة وبرامج "التوك شو" الشعبوية والقنوات الدينية المحرّضة على التمترس الطائفي، كل ما يمكنه أن يصنّف ضمن خانة الإعلام الاستهلاكي تم تكريسه، بصفته إعلاماً بديلاً من إعلام الأنظمة الرسمي والرصين بفظاظة مقيتة. وأوجدت هذه الطفرة الإعلامية نخباً أخرى، أوسع انتشاراً وأبلغ تأثيراً في المجتمع، هم نجوم الفضائيات وممثلو الدراما ومقدمو برامج "التوك شو" ودعاة البرامج الدينية. وكان عمرو خالد الذي أعلن، قبل أيام، عن تحوله إلى روائي، صاحب تأثير كبير وقوي وواسع على امتداد الوطن العربي، وما فعله غيّر في الثقافة اليومية لشرائح واسعة من المجتمعات العربية، لا سيما لدى الطبقة الوسطى، وما كان له أن يفعل ذلك، لولا أن تبناه الإعلام الخاص، المرتبط بالأنظمة وبأجهزتها الأمنية. كان الرجل استثناءً في وقته، لكن ظاهرته الدعوية تمددت، لاحقاً، وتوسعت، تناسلت من شخصيته شخصيات متعددة مشابهة، تابعت ما بدأه، وتكرّست، أيضاً، بصفتها نخباً اجتماعية، تعتمد على الدين في جماهيريتها. وبالتوازي مع هذا، بدأت تظهر برامج المنوعات والمسابقات والمنوعات وبرامج "التوك شو" السياسية والفلكية والتنجيمية، وتنتشر بين الجماهير المشاهدة بسرعة استثنائية، جعلت من مقدمي هذه البرامج نجوماً لا يقلون شهرة عن نجوم السينما، مسنودين إلى كتل مالية ضخمة، تسيّرهم وتسيّر الإعلام الذي يبرزهم حسب مصالحها.
تحول سلوك هؤلاء، أيضاً، إلى سلوك نخبوي، من حيث قدرتهم على التأثير على شرائح جماهيرية ليست قليلة. وترافق هذا مع نمو لشركات الإنتاج التلفزيوني والدرامي التي أمّنت حضوراً جماهيريّاً استثنائيّاً لممثلين عديدين، تحولوا إلى نجوم في زمن قياسي، وتم تكريسهم نخبة بديلة من النخب الثقافية التنويرية، مثلما تم استبدال النخب الاجتماعية والسياسية بالدعاة ومقدمي البرامج الترفيهية والسياسية والفلكيين والمنجمين. وأنتجت طفرة المال العربي طفرة إعلامية، كان لها الدور الأكبر في كل هذا الخراب الذي تشهده بلادنا الآن، إذ لم يكن هذا الإعلام سوى الذراع الأشد ضراوة من أذرع الاستبداد، الذراع الذي عوّض النقص في قدرة الأنظمة على بسط سيطرتها بالكامل، وساعدها على استبعاد وإقصاء النخب الحقيقية، الثقافية والسياسية والفكرية، وتجنب خطر تأثيرها التراكمي على مجتمعاتها. ولم تستطع النخب التنويرية الصمود والمقاومة والمواجهة، لأن أحداً لم يتبنّها إعلامياً من جهة، ولعطب بنيوي في أدواتها المعرفية من جهة أخرى، فانكفأ أكثرها واستوحد أو هاجر وابتعد، أو دخل بعضها في لعبة الأنظمة فاقداً بذلك مصداقيته الأخلاقية، أو دخل بعضها القليل في لعبة الإعلام، محاولاً إيصال صوته العاقل الضعيف إلى جماهير تم تدجينها، عقوداً طويلة، لتنسى قيمة العقل.
ولعلّ ما حدث في السنوات الأربع الماضية في الأداء الاعلامي العربي ما يدل على ذلك كله، حيث استخدم الإعلام كل النخب البديلة في معركته المضادة للثورات التغييرية، حتى مَن كان منه يدّعي وقوفه في صف الثورات. فإعلام الأنظمة استعان بنجومه ونخبه، من ممثلين ومنجمين ومقدمي البرامج، ليؤكد نظرية المؤامرة التي ادّعاها، ناسفاً بها حق الشعوب في انتقاء نمط حياتها وبناء مستقبلها، واستعان الإعلام المضاد للأنظمة بالدعاة ورجال الدين لحرف هذه الثورات عن أهدافها وقيمها الأساسية، وتحويلها إلى صراع مذهبي طائفي، يقضي على أي أمل للشعوب العربية بالتغيير، ويكرس نظرية الفوضى في مقابل التغيير، فلا تجد الشعوب نفسها إلا أمام خيارين، أحلاهما مر، العودة إلى الأنظمة نفسها بوجوه جديدة أو الاستمرار في حروب عسكرية وسياسية واجتماعية دينية، تقضي على مستقبل هذه الشعوب وحاضرها. ويكفي أمثلة على ذلك، ذكر ظواهر محددة ومعروفة: عدنان العرعور، محمد سعيد البوطي، غسان بن جدو، جورج قرداحي، محمد العريفي، توفيق عكاشة، مايك فغالي، وطابور من نجوم الدراما العربية، مثل رغدة وعفاف شعيب وحسن يوسف وغسان مسعود وسلاف فواخرجي وسوزان نجم الدين ويسرا.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.